كانت تجربة الطائفية السياسية في العراق نموذجا مقيتا للفساد السياسي والمالي، الذي لم يعد في الإمكان إخفاؤه أو التغاضي عنه.
لعقود طويلة كانت منطقة البلقان ومعها دولة لبنان مثالاً يتعلم منه دارسو العلوم السياسية كيف تفقد الدول تكاملها، وتماسكها لصالح مكوناتها الطائفية، وكيف يكون النظام السياسي معبراً عن الأوزان الطائفية، وكيف يكون المواطنون أعضاء من الدرجة الثانية في دولتهم، فهم أعضاء في طوائفهم، وطوائفهم تعبر عنهم أمام دولتهم.
أدركت الجماهير الشيعية ذاتها أنه تم اختطاف هويتها، ووجودها، وعقيدتها لتحقيق مصالح جماعات تمارس الفساد في الداخل، ولمصالح دولة أخرى طامعة في العراق، وعملت على إفقار شعبه لضمان تبعيته.
لذلك كان مصطلح "البلقنة" يشير إلى تحول الدول لنفس مسارات دول البلقان التي تتنازعها طوائف دينية تمثل العقائد المسيحية الثلاث الكبرى ومعها الإسلام. كذلك كان مصطلح " اللبننة" يشير إلى تفجر الخلافات الدينية في أي مجتمع عربي تقوده إلى الاحتراب الأهلي، ثم تشكيل نظام سياسي يتقاسمه زعماء الطوائف، ويغيب فيه صوت المواطنين، وتتوارى إرادتهم وراء صوت وإرادة من يمثلون طوائفهم.
وإذا كانت الحرب الأهلية اللبنانية 1990-1975 قد قادت إلى تشكيل نظام الطائفية السياسية الأول في العالم العربي، فإن الحروب الأهلية في منطقة البلقان في تسعينيات القرن الماضي قادت إلى تفكيك يوغوسلافيا، واستقلال طوائفها في أكثر من دولة، تعبر كل منها عن الطائفة الغالبة فيها، أو تكوين فيدراليات بين أكثر من طائفة في حالة البوسنة. ومن ثم سارت الطائفية في البلقان في طريق تفكيك الدولة، وسارت الطائفية في لبنان في طريق شلل وإرباك وارتهان الدولة لرعاة الطوائف من الدول الأخرى.
ولأول مرة في التاريخ الحديث يعيد نظام حكم آيات الله في إيران التقاليد الأوروبية في التعامل مع الدولة العثمانية رجل الشرق المريض، فقد أعلنت إيران بعد ثورة 1979، التي أسست نظام حكم ولاية الفقيه، أنها دولة شيعية بمعنى أنها دولة طائفية، ثم مارست سياسة دعم الطوائف، وتشجيعها على الخروج عن الولاء للدول التي توجد فيها، إلى الولاء للولي الفقيه الذي يمثل أعلى سلطة سياسية وقانونية في نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وكان تدخلها الواضح في لبنان، حيث خلقت مليشيا مسلحة، يفوق تسليحها جيش دولتها، ونجحت هذه المليشيا في ارتهان الدولة اللبنانية لأجندتها الخاصة، ونجحت كذلك في الهيمنة على القرار السياسي اللبناني، وصار نظام الحكم في لبنان في بيت طاعة زعيم المليشيا التابعة لإيران.
وقد تكرر نفس المنهج في التعامل مع العراق بعد الغزو الأمريكي، الذي باركته إيران، لأنه حقق كل أهدافها في العراق دون أن تطلق رصاصة واحدة، أو تفقد روح إنسان إيراني واحد، وتحول العراق على يد الأحزاب التابعة لإيران إلى موضوع للوصاية الإيرانية، وساحة خلفية للنفوذ الإيراني السياسي والاقتصادي والثقافي من خلال توظيف الوسيلة الدينية الطائفية.
نظام الوصاية على الطوائف الدينية في الدول الأخرى ذات السيادة بدأ مع القوى الأوروبية الصاعدة في تعاملها مع السلطنة العثمانية، فكانت فرنسا أول من وقّع اتفاقية في عام 1604 مع الدولة العثمانية لحماية ورعاية الكاثوليك في جميع المناطق الخاضعة للسلطان العثماني، رجل الشرق المريض، وبعد فرنسا جاءت بريطانيا لترعى البروتستانت، ثم روسيا لرعاية الأرثوذكس، وأمريكا لرعاية اليهود، وكانت هذه السياسة هي الوسيلة الأنجح لتفكيك الدولة العثمانية ثم إسقاطها.
وفي نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين تمارس إيران نفس السياسة، ولكن بدون اتفاق مع الدول، وإنما من خلال العمل المخابراتي، ومن خلال توظيف العملاء، وبالالتفاف من وراء الدول، أو من خلال تفجير صراعات طائفية، ومذهبية وجر الدول المستهدفة إلى حالة الحرب الأهلية، ولعل نموذج العراق واليمن لا يحتاج إلى مزيد شرح أو تحليل.
ولكن ما لم يضعه في اعتباره صانع القرار السياسي الإيراني أن العالم قد تغير جذرياً، وأن العصر لم يعد يحتمل وجود هذه الولاءات الضيقة، وأن العالم يتحرك صوب المواطنة العالمية، وليس المواطنة الطائفية، وأن السياسة في هذا العصر صارت نوعاً من السلع الجماعية، وأن من يمارس السياسة يتعامل مع الجماهير من خلال ما يقدمه من سلع جماعية، في صورة حاجات أساسية، وخدمات ضرورية، وأن الشفافية في العالم لم تعد تحتمل الفساد المبرر دينياً، أو الظلم الموظف لضرورات كهنوتية. لقد تغير العالم تماماً، وصارت الطائفة انتماء فطرياً ضرورياً للإنسان لا يتجاوز حدود الأبعاد النفسية والاجتماعية، ولا يصلح بأي حال من الأحوال أن يكون متغيراً سياسياً، أو فاعلاً سياسياً.
لقد كانت تجربة الطائفية السياسية في العراق نموذجاً مقيتاً للفساد السياسي والمالي، الذي لم يعد في الإمكان إخفاؤه أو التغاضي عنه، حتى القيادات الدينية التي كان جوهر وجودها ضمان سريان النظام الطائفي بصورة سهلة ويسيرة ولا تستفز الطوائف الأخرى، حتى هذه القيادات رفعت صوتها أخيراً ضد الفساد الذي تمارسه الكيانات الطائفية، وضد كل ما جنته الطائفية السياسية على العراق.
وقد لا يلاحظ كثير من المتابعين أن الجماهير التي خرجت ضد النظام الطائفي في العراق، وضد التدخل الإيراني، وقدمت الشهداء بالمئات والجرحى بالآلاف، كل هذه الجماهير هي من داخل المناطق الشيعية.. فقد أدركت الجماهير الشيعية ذاتها أنه تم اختطاف هويتها، ووجودها، وعقيدتها لتحقيق مصالح جماعات تمارس الفساد في الداخل، ولمصالح دولة أخرى طامعة في العراق، وعملت على إفقار شعبه لضمان تبعيته. هذه الجماهير الهادرة في العراق ضد الأحزاب الطائفية وضد إيران هي من تتكلم الأحزاب الطائفية وإيران باسمها.. إنها نهاية الطائفية السياسية في أكثر النماذج المعاصرة تمثيلاً للطائفية السياسية دستورياً وقانونياً وسياسياً.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة