ظلت جماعات الإسلام السياسي وتنظيماته ورموزه يتخذون وسائل عديدةٍ للنجاة بخطابهم وفكرهم،
العنقاء أو عنقاء مُغرب هي إحدى الأساطير الشهيرة لطائرٍ يعود من الموت ويخطف البشر، وقد صدر مؤخراً كتابٌ ضخمٌ يقع في ثلاثة آلاف صفحةٍ تقريباً، منسوبٌ لسفر الحوالي، الصحوي السعودي العتيد، والسروري المتتلمذ على الإخواني محمد قطب، والذي عاد من مرضٍ مقعدٍ بهذا الكتاب الإرهابي أو هكذا قيل.
ليس سهلاً القضاء على أي منتجٍ أيديولوجيٍ تمكّن لعقودٍ طويلةٍ من عقول وأذهان الناس وقلوبهم، وكانت له سطوة من سلطة ممزوجةٍ بسلطةٍ دينيةٍ، وتربت على خطابه مجتمعاتٌ وأفرادٌ، وقد أثبت خطاب جماعات الإسلام السياسي قدرةً فائقةً على التقلّب بين المتناقضات دون مساءلةٍ من أتباعه الذين تم تدجينهم على السمع والطاعة دون تفكيرٍ، والمعركة مع مثل هذه الخطابات المؤدلجة طويلةٌ، وهي معركة ذات أبعادٍ متعددةٍ من أهمها بناء النماذج الأنجح والرؤى الأفضل والمشاريع الأصلح بالتزامن مع المواجهة الصارمة.
ظلت جماعات الإسلام السياسي وتنظيماته ورموزه يتخذون وسائل عديدةٍ للنجاة بخطابهم وفكرهم، فجنحوا للإرهاب مراتٍ عديدةٍ بحسب المراحل التاريخية كما جنحوا للمسالمة مراتٍ أخرى، وأعلنوا الثورة والحرب كما أعلنوا الاستقرار والسلم، وتقلبوا بين خطاب ما يسمونه العزة والكرامة وبين خطاب الاستكانة والاستضعاف، ولبسوا لكل حالةٍ لبوسها بما يخدم الجماعة والتيار والحزب والحركة التي ينتمون لها، وهذا معروفٌ من تاريخهم.
متعذرٌ على سفر الحوالي أن يصدر كتاباً بهذا الحجم من المعلومات والتحليلات والتفاصيل بسبب مرضه العضال، وحجم علاقته به تستطيع تحديده الجهات الأمنية المسؤولة، ولكنه على كل حالٍ كتابٌ يعبر عن فكر الصحوة ربما حررته مجموعة من عناصر الإسلام السياسي في الداخل والخارج، وبدعمٍ من دولٍ إقليميةٍ معاديةٍ للسعودية.
من طرائقهم التي أسسها حسن البنا في بداية تأسيس جماعة الإخوان المسلمين وانتشارها في مصر نهاية العشرينيات الميلادية من القرن المنصرم، طريقة الغموض، بمعنى عدم إيضاح مواقف الجماعة بشكل حاسمٍ، بل اعتماد التناقض والتعريفات المموهة والمواقف القابلة لأكثر من تفسيرٍ، ويكفي مراجعة مذكراته لاستيعاب ذلك.
طوّرت الجماعة أساليبها وخطابها ليتواءم مع كل مرحلةٍ، فحين شعروا بالقوة أسسوا «التنظيم السري» في الأربعينيات والخمسينيات وأعادوا إحياءه مع «تنظيم سيد قطب» في الستينيات ومع التنظيمات الإرهابية في السبعينيات، وغيرها. وهي قامت باستخدام كل ما أمكنها من طرائق التعبير لضمان بقائها وتأثيرها وكسب المزيد من الأتباع والمتعاطفين بخطابٍ يناسب كل مرحلةٍ.
ركزت الجماعة بعد الضربات الناصرية المتتابعة لها ولتنظيماتها على خطاب الاستضعاف والمبالغة الفجة التي تمكن من حشد الأتباع واكتساب المزيد منهم، وذلك تأثراً بالخطاب الشيعي وأصدرت كتباً كاذبةً كثيرةً منها كتاب زينب الغزالي «أيام من حياتي» وكتاب أحمد رائف «البوابة السوداء» وعشرات الكتب التي تصب في نفس الاتجاه واستفادوا من ذلك في حينه، وأنتجوا جيلاً عنيفاً شرساً في أفكاره وعملياته الإرهابية.
بغية الاختصار، فقد أصدرت الصحوة وداعموها محلياً وإقليمياً كتاباً تحت عنوان «الإسلام والحضارة الغربية» وجعلت اسم مؤلفه «سفر الحوالي» وهو صحويٌ عتيدٌ كانت له مواقف متعددة على مدى سنواتٍ طوالٍ، ولكنه يعاني منذ أكثر من عقدٍ من الزمان من «جلطةٍ» أبعدته عن المشهد العام، والكتاب يتسق مع فكره ومع فكر الصحوة بشكلٍ عامٍ بشكل كبيرٍ، وهو يعبر عن هذا النمط من التفكير خير تعبيرٍ.
الذي ينبغي رصده هنا هو أن هذه طريقةٌ جديدةٌ من وسائل الصحوة للتعبير عن مواقفها الشاذّة والمتطرفة دون تبعاتٍ تذكر، فقد سبق لبعض رموز الصحوة إصدار كتبٍ تحت أسماء مستعارة، في فتراتٍ لم يكونوا يضمنون فيها ردود الفعل الرسمية والشعبية، كما سبق لهم أن استخدموا توزيع الأدوار وإصدار الكتب المتناقضة لتشتيت الانتباه، وبعد الصدامات الشرسة مع الحكومات وتصعيد الخطابات والمواقف ضدها وتجربة السجون اختاروا طريقةً أخرى.
سعودياً، استخدموا الرسائل والمنشورات المذيلة بأسماء حقيقية أو وهمية وتوزيعها ونشرها بين الناس على نطاق واسعٍ، من «رسائل جهيمان» إلى «مطويات» الدعوة والجهاد وصولاً إلى «الكاسيتات» والدخول بعد ذلك في الإعلام عبر مجلاتٍ وكتبٍ تتحدث عن الأموات، بحيث تجمع فتاوى لفقهاء أموات ويتم تنزيلها على حوادث لحقت ذلك، ومن ذلك ما فعله مؤلف «الكواشف الجلية» عصام البرقاوي تحت اسم مستعارٍ، وما لخصه محمد المسعري لاحقاً من الكتاب، وكانت إحدى طرائقهم المعروفة.
تطوّر ذلك إلى طريقة أخرى استخدموها بكثافةٍ وهي طريقة «الخطابات الجماعية» وبالذات في التاريخ المحلي السعودي، حيث وجدوا فيها ملجأً يعصمهم من الاستهداف الحكومي والشعبي، والبيانات الجماعية سعودياً كان أوضح استخدامٍ لها مع خطاب المطالب مطلع التسعينيات الميلادية وبعد احتلال صدام للكويت وحرب الخليج الثانية فيما كان يعرف بـ «خطاب المطالب» وبعده ما عرف بـ «مذكرة النصيحة»، ولاحقاً حين نجحت هذه الطريقة تمّ استخدامها على نطاقٍ واسعٍ في شتى المواقف السياسية محلياً وإقليمياً وعالمياً.
ما يظهره هذا الكتاب هو أن ثمة طريقةً جديدةً للصحوة لتعبر عن نفسها ومواقفها دون تبعاتٍ على أحدٍ، وذلك من خلال استخدام أسماء حيةٍ ولكنها مريضةٍ وعاجزةٍ أو غير قادرةٍ على اتخاذ مواقف، وربما عبر الاستعانة ببعض الأقارب وبعض التلاميذ لجعل ذلك يبدو قريباً من الحقيقة، وبالتالي محاولة إحراج الدولة في اتخاذ الموقف الصارم والمناسب من هذا المؤلف نصف الحيّ ونصف الميّت.
يليق هذا الكتاب وأفكاره بأسلوب وطريقة سفر الحوالي، منذ أن أعلن عن نفسه معارضاً سياسياً مطلع التسعينيات الميلادية في محاضرتيه الأشهر حينذاك، «فستذكرون ما أقول لكم» و«ففروا إلى الله» وكذلك في تهجمه على الصوفية في دروس «الرد على الخرافيين» وكتابه «وعد كيسنجر» وبغض النظر إن كان قد كتب الكتاب بنفسه أم نسبه غيره إليه فهو يعبّر عن تفكير الصحوة ومبادئها.
لم يفتأ سفر الحوالي يؤسس لخط شديد التطرف ضمن تيار الصحوة، برسالتيه للماجستير «العلمانية» والدكتوراه «ظاهرة الإرجاء» وبمواقفه ومحاضراته ودروسه وقد تأثر به تيار عريض داخل الصحوة هو التيار الأقرب لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش أو «شباب الجهاد»، كما كان يسميهم سفر الحوالي والتيار المتأثر به، وهذا الكتاب «الإسلام والحضارة الغربية» هو امتدادٌ طبيعيٌ لهذا الفكر والخطاب.
أخيراً، فمتعذرٌ على سفر الحوالي أن يصدر كتاباً بهذا الحجم من المعلومات والتحليلات والتفاصيل بسبب مرضه العضال، وحجم علاقته به تستطيع تحديده الجهات الأمنية المسؤولة، ولكنه على كل حالٍ كتابٌ يعبر عن فكر الصحوة ربما حررته مجموعة من عناصر الإسلام السياسي في الداخل والخارج، وبدعمٍ من دولٍ إقليميةٍ معاديةٍ للسعودية والدول العربية.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة