من فوز دونالد ترامب برئاسة أمريكا في 2016 لهزيمة أقصى اليمين بانتخابات فرنسا بـ2024، فشلت استطلاعات الرأي في التنبؤ بنتائج أحداث محورية، ويشير هذا الإخفاق المتكرر إلى "العوار المرتبط باستطلاعات الرأي" وارتباطها بمصالح مموليها، وسقوطها في فخ أخطاء علمية فج
في حملة الانتخابات الأمريكية الجارية حاليا لن تجد مؤسسة بحثية تتفق مع مؤسسة أخرى في توقعاتها، لتوجهات الرأي العام حيال المرشحين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية كامالا هاريس.
ففي حين يمنح متوسط استطلاعات "270Towin" على المستوى الوطني كامالا هاريس اليد الطولى في السباق بـ47.4% مقابل 45.4% لترامب، نجد أن متوسط استطلاعات "Realclear" تمنح المرشح الجمهوري التفوق بـ47.4% مقابل 46.9%.
لكن الانتخابات الأمريكية الحالية ليست حالة فريدة من نوعها، إذ سبقها سلسلة من الإخفاقات لاستطلاعات الرأي، سواء في توقع الفائز، أو توقع حجم الفرق بين المتنافسين.
وبصفة عامة، كانت مؤسسة غالوب أول من بدأ عملية استطلاع الرأي في موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1936، وسيطرت على هذه الصناعة لعقود طويلة قبل أن يتزايد عدد مؤسسات قياس الرأي العام بشكل مطرد في الألفية الحالية.
سجل صعب
من بين الإخفاقات الكبيرة الحديثة التي شوهت صناعة استطلاعات الرأي الانتخابات الرئاسية لعام 2016، عندما تصدرت عناوين الأخبار المختلفة الاستطلاعات التي زعمت أن فرص المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في الفوز على دونالد ترامب كانت نحو 90%، لكن العكس تماما هو ما حدث في الانتخابات.
وكانت الصدمة هائلة في هذه الصناعة، وتزايدت محاولات تفادي الخطأ في 2020، لكن المؤسسات الكبرى لن تجد وسيلة للخروج من المأزق سوى تبني أعلى هوامش خطأ في الاستطلاعات في 40 عاما، وفق تقرير للجمعية الأمريكية لاستطلاعات الرأي العام صدر في عام 2020، واطلعت عليه "العين الإخبارية".
ووفق التقرير ذاته توقعت استطلاعات الرأي على المستوى الوطني ومستوى الولايات في ذلك الوقت، فوز بايدن على ترامب بهامش أكبر بكثير مما تحقق في الواقع، أي أنها قللت عكس الواقع من الدعم الذي يحظى به الرئيس السابق شعبيا.
وخلال انتخابات التجديد النصفي لـ"الكونغرس" الأمريكي لعام 2022، لم تأت "الموجة الحمراء" التي توقعتها استطلاعات الرأي، التي بنت على أساسها وسائل الإعلام أن يسيطر الجمهوريون على البرلمان بأغلبية ساحقة، وبدلا من ذلك حافظ الديمقراطيون على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ وخسروا مجلس النواب بهامش ضئيل للغاية.
مشكلة استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة قديمة للغاية رغم محاولات تحديث الصناعة بشكل مستمر، ففي عام 1948 فشلت جميع استطلاعات الرأي الرئيسية التي كانت تستخدم نظام عينات الحصص بدل تلك العشوائية في ذلك الوقت، في توقع الفائز في الانتخابات الرئاسية لعام 1948، بل إنها توقعت فوز الجمهوري توماس ديوي على الديمقراطي هاري ترومان بفارق كبير، ولكن ما حدث هو العكس تماما.
وبصفة عامة، فشلت مؤسسة غالوب التي كانت مسيطرة على استطلاعات الرأي في القرن الماضي، في توقع نتائج انتخابات 1948 و1976 وما عرف بأزمة التباين بين التصويت الشعبي وأرقام المجمع الانتخابي في عام 2000، ونتيجة انتخابات 2004، وفق مقال للكاتب جاك شافر في مجلة بولتيكو نشر في 2021.
وصلت الأرجنتين
وبعيدا عن الولايات المتحدة التي تشهد هزات ضخمة في استطلاعات الرأي، لم تتوقع أي مؤسسة لاستطلاع الرأي بالهامش الواسع الذي حققه المرشح الرئاسي ألبرتو فرنانديز على الرئيس منتهي الولاية ماوريسيو ماكري بنسبة 16% في الانتخابات التمهيدية للرئاسة في الأرجنتين، وفق دراسة أعدها فريق من الباحثين لمجلة "مجلد البيانات الضخمة" المعنية بالدراسات الإحصائية عام 2021، واطلعت عليها "العين الإخبارية".
وهذه الدراسة التي تحمل عنوان "لماذا تفشل استطلاعات الرأي في توقع الانتخابات؟"، وضعت يدها على سببين رئيسيين في فشل استطلاعات الرأي في توقع الانتخابات، وهما تحيزات واضحة تتعلق بسوء تمثيل السكان في عينات استطلاعات الرأي، والأهم من ذلك تحيزات الرغبة الاجتماعية، أي ميل المستجيبين إلى إخفاء نيتهم في التصويت للمرشحين المثيرين للجدل في الاقتراع.
ووفق رصد "العين الإخبارية" لـ10 دراسات صادرة عن جامعات عالمية، أبرزها دراسة "The Illusion of Predictive Power" الصادرة عن جامعة هارافارد العريقة، فإن منهجية استطلاعات الرأي تعاني ثغرات كبيرة، يحركها تحيز المؤسسات والباحثين في تصميم الأسئلة وصياغتها بشكل معين، وكذلك في اختيار العينة، ما يؤثر على النتائج النهائية.
مشكلة في أوروبا
وفي الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة لم يكن حظ استطلاعات الرأي أفضل، إذ توقعت قبل أيام من الجولة الثانية من الانتخابات، ألا يحصل التجمع الوطني "أقصى اليمين" بزعامة ماري لوبان الأغلبية المطلقة لتشكيل حكومة (289 مقعدا)، لكنه سيحصد الأكثرية بما بين 190 و220 مقعدا، فيما ستحل الجبهة الشعبية في المرتبة الثانية ثم التحالف الوسطي المؤيد للرئيس إيمانويل ماكرون، وفق ما نشرته موقع "يورو نيوز" يوم 4 يوليو/تموز الماضي.
لكن ما حدث كان العكس تماما، إذ تعرض التجمع الوطني لكارثة انتخابية وسقط إلى المرتبة الثالثة، فيما احتلت الجبهة الشعبية المرتبة الأولى (أكثرية المقاعد) بفارق ضئيل عن تحالف ماكرون الذي حل ثانيا.
وقبل ذلك بشهر، كانت استطلاعات الرأي على موعد مع صدمة في النمسا، إذ كانت تتوقع فوز حزب الحرية "أقصى اليمين" في انتخابات البرلمان الأوروبي بـ30% من الأصوات في رقم قياسي للحزب، ووضعت معظمها الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثانيا بفارق سبع نقاط، ثم حزب الشعب الحاكم ثالثا بفارق نقطة عن الثاني.
ماذا حدث؟ سقط حزب الحرية من سقف الـ30% المتوقع إلى 25.4% فقط، وصعد حزب الشعب للمرتبة الثانية بـ24.5%، ثم حل الاشتراكيون ثالثا بـ23.2%.
في هذه الحالات وقبلها في الولايات المتحدة تظهر ثغرات الاستطلاعات مجددا، إذ تقول الخبيرة الفرنسية الدكتورة جيهان جادو في حديث لـ"العين الإخبارية"، "الحقيقة هي أن هذه الاستطلاعات تكون مبنية على بعض شرائح معينة من المجتمع وليست كل شرائحه"، أي أنها ليست ممثلة تمثيلا كاملا للمجتمع.
وتابعت "وما حدث في الانتخابات التشريعية بفرنسا على سبيل المثال هو أن هناك طبقة عريضة من المجتمع لم تكن في الحسبان، وهي الجاليات العربية التي لعبت دورا مهما جدا في هذه الانتخابات"، ما أثر على النتائج.
وأضافت "أما بالنسبة لأمريكا وغيرها من الدول تُبنى أيضا استطلاعات الرأي على بعض شرائح المجتمع وطبقات معينة، لذلك تكون النتائج الأخيرة مغايرة تماما للفعلية".
ومضت قائلة "ويرجع ذلك إلى أن الظروف والنتائج المحيطة بالانتخابات، سواء في فرنسا أو أمريكا، تكون رهن الساعة وليست مُسبّقة"، ما يصعب التنبؤ بها في استطلاعات الرأي.
جادو لفتت إلى سبب آخر يتمثل في نمط مشاركة الناخبين بكثافة لمنع سيناريو معين، وهو ما لا ترصده استطلاعات الرأي، وضربت مثالا بأن "الشعب الفرنسي يخرج بكثافة كبيرة في المرحلة الثانية من الانتخابات الفرنسية، حين يتعلق الأمر بالحيلولة دون وصول اليمين المتطرف (أقصى اليمين) إلى السلطة".
سلة أخطاء
وفي محاولة لوضع استطلاعات الرأي السياسية في نصابها الصحيح، كتب الباحث أندرو جيلمان وفريق عمل من جامعتي ستانفورد وكلومبيا الأمريكيتين في دراسة نشرت عام 2018، "من المعروف جيدا بين الباحثين والممارسين أن استطلاعات الرأي الانتخابية تعاني مجموعة متنوعة من الأخطاء في أخذ العينات والأخطاء غير المتعلقة بأخذ العينات، التي غالبا ما يشار إليها مجتمعة بالخطأ الكلي في الاستطلاع".
وتابع "وعادةً ما تقتصر هوامش الخطأ المبلغ عنها على هوامش الخطأ في أخذ العينات فقط، وتتجاهل بشكل خاص الأخطاء غير المتعلقة بأخذ العينات في تحديد السكان المستهدفين (على سبيل المثال، الأخطاء الناجمة عن عدم اليقين لدى المشارك في الاستطلاع "يكون غير متأكد بنسبة كبيرة من تصويته لشخص معين")".
الدراسة حددت سببا آخر لعدم دقة استطلاعات الرأي في وقائع متكررة، وهي ارتفاع نسبة عدم الاستجابة بين المستطلعين المستهدفين، وتعني عدم رد عدد كبير من المستطلعين المحتملين على طلب القائمين بالاستطلاع، ما يسبب في النهاية مشكلة في العينة النهائية.
وعلى سبيل المثال، قد يكون مؤيدو المرشح المتأخر أقل احتمالاً للرد على الاستطلاعات، إذ قال مركز بيو الأمريكي للأبحاث في تقرير عام 2016 "مع تجاوز معدلات عدم الاستجابة نسبة 90% في الاستطلاعات الانتخابية، فإن هذا الأمر يشكل مصدر قلق متزايد للقائمين على الاستطلاعات".
"المواقف المتغيرة"
بالإضافة إلى ذلك حددت دراسة جيلمان وفريقه مشكلة أخرى في استطلاعات الرأي الانتخابية وهي "المواقف المتغيرة"، فبينما تسعى الاستطلاعات عادةً إلى قياس ما سيفعله المشاركون في الاستطلاع في يوم الانتخابات، فإنها لا تستطيع قياس المعتقدات الحالية بشكل مباشر، كما أنها لا تضمن ألا يغير الناخب رأيه في يوم الاقتراع.
وبعيدا عن المشاكل التقنية هناك أيضا معضلات سياسية مثل الاستقطاب الذي يعيق الحصول على نتائج دقيقة من الاستطلاعات، إذ كتب الكاتب الأمريكي جيمس روسن، في مقال سابق "في النهاية قد تكون المشكلة في استطلاعات الرأي متعلقة بتوقعاتنا المبالغ فيها أكثر من الاستطلاعات نفسها، ففي أمة مستقطبة منقسمة بالتساوي بين الحزبين الرئيسيين، من الأفضل لنا أن نستقبل بحذر العدد المتزايد باستمرار من التوقعات الانتخابية".
سبب آخر في عدم دقة الاستطلاعات ما يعرف بـ"الناخبين المترددين" أو "ناخبي اللحظة الأخيرة". على سبيل المثال، وفقا للجمعية الأمريكية لأبحاث الرأي العام لم يقرر بعض الناخبين من سيكتب اسمه على بطاقة الاقتراع حتى اللحظة الأخيرة، مما يجعل من الصعب حصر هؤلاء في الاستطلاعات التي تسبق الاقتراع.
كما أن بعض الناخبين كانوا خجولين بشأن دعمهم لترامب بسبب خطابه السياسي المثير للجدل خلال حملة 2016. ونتيجة لذلك لم يعترفوا دائما بنواياهم التصويتية لمستطلعي الرأي، وفق المصدر ذاته.
سبب أخير
أما السبب الأخير فهو عدم ثقة الناس المتزايدة بمراكز قياس الرأي العام، بسبب أخطائها المتكررة أو انحيازاتها المسبقة لتيار سياسي معين، ما يؤثر بالسلب على العينات المختارة وبالتالي نتائج الاستطلاع، إذ تقول لونا أتكيسون الأستاذة في جامعة فلوريدا وتعمل في الاستطلاعات الانتخابية منذ 10 سنوات في حديث لـ"سي إن بي سي" نيوز الأمريكية، "بدأت أتلقى رسائل من الناس تقول: أنت جزء من المشكلة، أنت لست جزءًا من الحل، لن أجيب على استبياناتك بعد الآن، أنت أكاديمي شرير تحاول غسل أدمغة أطفالنا".
بالنسبة لـ"أتكسون" "كانت تلك الملاحظات تمثل تحولا: فقد بدأ الناخبون الأكثر استقطابا يفقدون الثقة بمؤسسات مثل استطلاعات الرأي، وربما لم يعد الناخبون مستعدين للتحدث إليها".
وفي الوقت نفسه كانت التكنولوجيا تتقدم، ولم تعد الهواتف الأرضية أو البريد وسائل مضمونة للتواصل مع المشاركين في الاستطلاع، وفق الأكاديمية الأمريكية.
فيما قالت راشيل كوب، أستاذة العلوم السياسية في جامعة سوفولك لشبكة "سي إن بي سي": "لم يكن الناس يجيبون على هواتفهم.. حتى في السنوات العشر الماضية، قد تحاول الاتصال بـ20 متصلاً للحصول على رد من شخص واحد، أما الآن فقد تضاعف العدد: 40 متصلاً لتحصل على ما تحتاج إليه، لذا فإن كل استطلاع رأي يستغرق وقتا أطول وهو أكثر تكلفة".
من المطبخ
من جانبه، أقر عضو الحزب الديمقراطي الأمريكي نعمان أبوعيسى، في حديث لـ"العين الإخبارية"، بأنه لا يمكن الاطمئنان إلى استطلاعات الرأي كمؤشر حقيقي عن النتائج النهائية للسباق الرئاسي، لأن الفيصل والحكم هنا هو يوم التصويت النهائي.
وأوضح أن نتائج الاستطلاعات قد تختلف من مركز لآخر بسبب أن عددا من مؤسسات الاستطلاع ينحازون حسب نفوذ من يقومون بالتمويل، مشيرا إلى أن الجهة المسؤولة عن الاستطلاع تحاول التركيز على فئات معينة في المجتمع لتكون مناسبة لمن يريدون الترويج له، وهذا يوثر على النتيجة".
وفي ملمح آخر يشير أبوعيسى إلى أن استطلاعات الرأي قد تؤدي لاطمئنان زائف للمرشح وأنصاره، وهو ما قد يؤدي لنتائج سلبية، "في 2016 كانت ثقة كلينتون وأنصارها الزائدة باستطلاعات الرأي عاملا سلبيا على أداء الحملة، إذ تقاعست ومعها الناخبون حتى تفاجأت بفوز ترامب لأنه استطاع أن يكسب شعبية واسعة بين البيض من الفقراء ومتوسطي الدخل.
وأشار إلى أن الأرقام متقاربة جدا في الولايات المتأرجحة، وهي بنسلفانيا وجورجيا وأريزونا وهذه الولايات ستحدد نتائج الانتخابات الرئاسية.
كما أقر المحلل السياسي وعضو الحزب الديمقراطي الأمريكي البارز مهدي عفيفي، في حديث خاص من واشنطن لـ"العين الإخبارية"، بأنه "لا ينبغي الاعتماد على استطلاعات الرأي في السباق الرئاسي الأمريكي، لأنها تكون موجهة وغير دقيقة، في ظل أعداد قليلة لا تتخطى ألفي شخص كعينة يعتمد عليه الاستطلاع".
ولم يذهب غبريال صوما، العضو البارز في الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بعيدا عن رؤية سابقيه من الحزب الديمقراطي.
وأكد صوما، في حديث خاص لـ"العين الإخبارية"، أن "استطلاعات الرأي لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل، لأنها تعبر عن نية الناخب في التصويت للمرشح، إذا جرت الانتخابات في اليوم الذي أجرى فيه الاستطلاع".
وأبرز في هذا الصدد أن "نتائج الاستطلاعات تعطي فكرة على ميول الناخب في الفترة التي أجري فيها الاستطلاع".
وفي تقدير أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن الدكتور نبيل ميخائيل فإنه لا يمكن أن تكون استطلاعات الرأي دقيقة كلية.
وأشار ميخائيل، في حديث خاص لـ"العين الإخبارية"، وجود تحيزات ضمن دوائر مراكز استطلاع الرأي تؤثر على نتائجها بصورة لا يمكن إنكارها.
وفي تصريحات سابقة، أقر كريس جاكسون، نائب رئيس شركة "إبسوس" للاستطلاعات، أن أحد أبرز تحديات استطلاعات الرأي هو أن الأشخاص ينظرون إليها وكأنها التمثيل المثالي لمعرفة نتائج الانتخابات "لكنها في الحقيقة مجرد تمثيل للحظة معينة، ويجب النظر إليها كانطباعات وليس كحقيقة مطلقة".