من قلب الأزهر الشريف في العاصمة المصرية القاهرة كان الحبر الأعظم يؤكد أيضاً في أبريل من العام الماضي على دور الأديان..
من البشر من هم صناع سلام، دعاة له، جاذبين إياه إلى محاضرهم في الصحو والمنام، في الحضور والغياب.. من هذه الشخصيات يأتي البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، الزعيم الروحي لنحو مليار وثلاثمائة مليون كاثوليكي حول العالم، يخضعون له خضوعاً أبوياً في جل أمورهم الأخلاقية والأدبية، ويسعون سعيه في علاقته مع اتباع الأديان الأخرى لا سيما الإسلام.
وكأن العناية الربانية قد شاءت أن يظهر "فرنسيس" على شاشة الأحداث الدولية، ويرتقي السدة البطرسية، في زمن تتعالى فيه موجات الكراهية، وتمتد دعوات التعصب القومي، وتتخلق في الأرحام صناعة الإسلاموفوبيا، من جديد في محاولة لتعكير صفو العالم، وسلام الأمم والشعوب.
تصريحات البابا فرنسيس تحمل رجاء عله يقود رؤية الأوروبيين والغرب بأكمله للتفريق بين الإرهاب والعنف باسم الله، وطبيعة الأديان ودورها في ليل الصراعات التي تجتازها البشرية، على أمل أن تضحى فجر سلام، لا غروب خصام
في الأسبوع الأخير من شهر مايو/أيار المنصرم، وخلال حوار مع رئيس تحرير صحيفة "إيكو أوف بيرغامو" الإيطالية قال البابا فرنسيس إن "ربط الإرهاب بالإسلام كذبة تتسم بالحماقة، وإن راجت على شفاه كثيرين". في المقابلة عينها يوضح البابا تهافت المعادلة التي يقرنها الكثيرون بين المسلمين والإرهابيين، ويشدد على أن أهم دور للأديان هو تعزيز "ثقافة اللقاء إلى جانب تعزيز التعليم الحقيقي في السلوك المسؤول عن العناية بالخليقة".
هل كان هذا التصريح هو الأول من نوعه فيما يخص رؤية البابا الكاثوليكي للإسلام والمسلمين؟ يمكن القطع بأن هناك مرات سابقة ذهب فيها البابا إلى الرأي نفسه، كانت إحدى تلك المرات في شهر أغسطس/آب من عام 2016، على متن الطائرة التي حملته من"كراكوفا" في بولندا إلى العاصمة الإيطالية روما.
قال البابا يومها: "هناك دوماً مجموعة من المتطرفين في كل دين، ليس من الصائب القول بأن الإسلام دين إرهابي، ولا أحب الحديث عن العنف وكأنه حصر على المسلمين". في ذلك الوقت كانت أوروبا عامة وفرنسا خاصة قد تعرضت لصدمة إنسانية وإيمانية مروعة تمثلت في اغتيال الكاهن الفرنسي الأب "جاك هاميل" ذبحاً على يد اثنين من الشباب الأصوليين الفرنسيين المسلمين من أصول عربية. يومها وجه اليمين العنصري وبقية القوى القومية النازعة إلى كراهية المسلمين سؤالاً للبابا مفاده: "لقد قلتم لنا إن كل الأديان تسعى إلى السلام، لكنه (هاميل) قتل باسم الإسلام، ولم تأت أبداً على ذكر كلمة إسلام لدى حديثكم عن الإرهاب؟"، كان جواب البابا أكثر إثارة حين أشار إلى أنه لا يحب التحدث عن تخصيص العنف بالقول هذا "عنف مسلم"، لأنه يقرأ عن العنف يومياً في الصحف الإيطالية التي يطالعها وعليه إذا كان الحديث عن "عنف مسلم" فهل يجب أن يكون هناك "عنف كاثوليكي" مقابل؟ في أوائل أكتوبر/تشرين الأول 2016 كذلك كان البابا فرنسيس يزور مسجد "حيدر ألييف" في أذربيجان، حيث كان في استقباله شيخ المسلمين في القوقاز، وممثلون عن الديانات الأخرى، ويومها كان الرجل ذو الرداء الأبيض يفتح أبواب السلام واسعة، ويعمل جهده لإغلاق كوى الكراهية والبغضاء.
من قلب المسجد حيث ترتفع صلاة المسلمين قال الحبر الأعظم: "إن الإخوة والمقاسمة اللتين نرغب بتنميتهما لن يقدرهما من يريد أن يشدد على الانقسامات". تسكن الأصولية القلب حينما تتمركز الذات البشرية حول نفسها، وتغلق أبواب الحوار والتلاقي مع الآخر، في حين أن الانفتاح على الآخر لا يفقرنا، بل يغنينا، من أي دين أو جنس أو عرق كنا، ذلك لأنه يساعدنا لنكون أكثر إنسانية ونفعاً، نصب أعيننا خير البشرية ولا نعلي من مصالحنا الخاصة.
من قلب الأزهر الشريف في العاصمة المصرية القاهرة كان الحبر الأعظم يؤكد أيضاً في أبريل/نيسان من العام الماضي على دور الأديان التي يجب أن تكون وسيلة لمرافقة البشر في البحث عن معنى لحياتهم، ومساعدتهم على فهم محدودية الإنسان وخيرات العالم. ومن قلب حاضنة الإسلام السُني كان فرنسيس يقدم قراءة للدين بوصفه بوصلة توجه المرء للخير وتبعده عن الشر، ويؤكد أن "الأديان قادرة على مساعدة الإنسان في طريق بناء حضارة اللقاء والسلام، وأنه لا يجب أبداً أن تستغل لتعميم الصراعات، لأنه لا يمكننا أن نتضرع إلى الله لمصالح أنانية، ولا نستطيع أن نبرر لاهوتياً، الإرهاب والإمبريالية والاستعمار". يعن لنا أن نتساءل هل تصريحات البابا فرنسيس عن الإسلام لها أهمية في ضوء السياقات اليمينية الأوروبية المتصاعدة وجميعها لا تحمل إشارات اتفاق، بل افتراق، وكأني بها لم تتمثل الإسلام حتى الساعة ديناً وفكراً وثقافة؟
تبدو تصريحات البابا نبراساً هادياً للمسيحية في أوروبا بنوع خاص، وتأتي في موعد حساس، حيث تظهر دراسة أجراها معهد "بيو" لأبحاث قياس الرأي، أن نسبة المسيحيين الرافضين لانضمام مسلمين إلى عائلاتهم بين كاثوليك ألمانيا، أعلى منها بين البروتستانت، وحملت الدراسة عنوان "أن تكون مسيحياً في غرب أوروبا". الدراسة توضح أن 51% من الكاثوليك في ألمانيا ليس لديهم استعداد لقبول المسلمين كأفراد في عائلاتهم، فيما انخفضت هذه النسبة لتصل إلى نحو 16%. يمكن للبعض أن يحاجج بالقول إن هذا رد فعل طبيعي لأعمال "الإرهاب المتأسلم"، ولا نقول "المسلم"، التي شهدتها أوروبا في الأعوام الأخيرة.
غير أن تصريحات البابا فرنسيس تحمل رجاء عله يقود رؤية الأوروبيين والغرب بأكمله للتفريق بين الإرهاب والعنف باسم الله، وطبيعة الأديان ودورها في ليل الصراعات التي تجتازها البشرية، على أمل أن تضحى فجر سلام، لا غروب خصام.
نقلاً عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة