أنهى قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، زيارته التاريخية للعراق الشقيق.
بعد أربعة أيام تنقل خلالها بين مدن هذا البلد ومناطقه ومعالمه ورموز التاريخية. حاملاً معه رسائل التضامن والتسامح والسلام لهذا البلد الذي عانى شعبه لسنوات طويلة من الحروب والصراعات المسلحة وأعمال العنف الديني والطائفي والإرهاب.
الزيارة "تاريخية" بما تحمله الكلمة من معنى، ليس فقط لأن البابا فرنسيس هو البابا الأول للفاتيكان الذي يزور العراق تاريخياً، أو ليس فقط بسبب توقيت الزيارة التي جاءت في ظل ظروف غاية في الصعوبة بسبب تفشي وباء كورونا وبسبب حالة عدم الاستقرار الأمني التي يشهدها العراق نتيجة التفجيرات الانتحارية التي شهدتها العاصمة بغداد في شهر يناير الماضي، والتي عززت المخاوف من عودة خطر تنظيم داعش من جديد، ونتيجة تنامي تهديدات المليشيات الطائفية وعملياتها المسلحة ضد القوات الأمريكية على خلفية الصدام الحالي بين واشنطن وطهران، وإنما أيضاً، إضافة إلى كل هذا، بسبب الرسائل المهمة التي انطوت عليها هذه الزيارة.
ولعل أولى هذه الرسائل وأهمها هي رسالة التسامح والأخوة الإنسانية التي حملها بابا الفاتيكان معه، فالعراق هو بلد التقاء الديانات والطوائف والحضارات والثقافات المختلفة، وهو أكثر بلدان المنطقة التي عانت من ويلات الصراعات ذات الجذور الطائفية والدينية في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد ظهور تنظيم داعش وتنامي قوته وسيطرته على مساحات واسعة من أراضي هذا البلد واضطهاده للكثير من الأقليات الدينية فيه، خاصة الأقلية المسيحية من أبناء الطائفة الإيزيدية، ومن هنا جاءت الزيارة حاملة معها دعوة للتسامح والتعايش والتصالح بين أبناء العراق بمختلف طوائفهم ودياناتهم، والتذكير بحقيقة أن جميع الأديان تنبذ العنف والصراعات وتدعو للسلام والتعايش، ومن هنا جاءت إدانة البابا فرنسيس الصريحة لكل أشكال التطرف باسم الدين، قائلاً في صلاة مشتركة له بين الأديان: "العداوة، والتطرف، والعنف أشياء لا تنبت في قلب متدين.. إنها نواقض التدين"، كما تضمن لقاؤه المهم مع المرجع الشيعي علي السيستاني، التأكيد المشترك على هذه المعاني.
وتتفق هذه الرسالة جملة وتفصيلاً مع ما تضمنته وثيقة "الأخوّة الإنسانية"، التي وقعها البابا فرنسيس والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف في أبوظبي في فبراير 2019، والتي اعتُمد يوم توقيعها في الرابع من فبراير، يوماً عالمياً للأخوة الإنسانية، حيث تؤكد هذه الوثيقة المهمة التي صدرت من أرض الإمارات أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام والتعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك.
ومن هنا تأتي رمزية زيارة البابا لمدينة أور التي يُعتقد أنها مسقط رأس النبي إبراهيم عليه السلام، أبي الأنبياء، الذي تنتسب جميع الأديان السماوية له، والتي تذكرنا أيضاً بمبادرة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، تأسيس البيت الإبراهيمي كرمز لوحدة الأديان والأخوة الإنسانية بين أتباع هذه الديانات.
الرسالة الثانية هي رسالة تضامن ودعم للشعب العراقي ولحكومته في مواجهة قوى التطرف والإرهاب، ومن هنا جاء حرص البابا على زيارة مدينة الموصل، المعقل السابق لتنظيم داعش، والمعالم التاريخية والكنائس التي لحق بها التدمير الكلي أو الجزئي نتيجة ممارسات هذا التنظيم الإرهابي، وتأكيده نبذ كل صور الإرهاب.
أما الرسالة الثالثة، فهي رسالة سلام ودعوة لوقف الصراعات والحروب العبثية في هذا البلد العربي الشقيق، وهي رسالة كانت واضحة ومباشرة، حيث دعا بابا الفاتيكان، خلال لقائه الرئيس العراقي برهم صالح فور وصوله إلى أرض العراق، إلى وقف الصراعات وخدمة أجندات القوى الخارجية، قائلاً: "لتصمت الأسلحة، ولنضع حداً لانتشارها هنا وفي كل مكان، ولتتوقف المصالح الخاصة، المصالح الخارجية التي لا تهتم بالسكان المحليين، ولنستمع لمن يبني ويصنع السلام".
يحتاج العراق بكل طوائفه وأديانه وقواه السياسية والدينية إلى أن يتفكر ملياً في الرسائل التي وجهها بابا الفاتيكان خلال زيارته التاريخية لهذا البلد، وأن يبدأ صفحة جديدة من تاريخه تعلي من قيم التسامح والسلام والأخوة الإنسانية، بعدما أثبتت الصراعات العبثية التي عاناها في العقود الأخيرة أن الجميع خاسرون، وأن الجميع مطالبون بتحمل مسؤولياتهم لإعادة العراق إلى مجده التاريخي، وجعله كما كان ملتقى للحوار البناء بين الطوائف والأديان والحضارات المختلفة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة