مبادرات التدريب قبل الزواج.. كيف تراهن تركيا على الوعي للحد من الطلاق؟

في السنوات الأخيرة، تحوّل موضوع الطلاق في تركيا إلى قضية عامة تتجاوز إطار العائلات المنفصلة. فالأرقام الرسمية تكشف عن واقع اجتماعي مقلق.
وفق إحصاءات هيئة الإحصاء التركية (TÜİK)، سجّلت البلاد خلال عام 2024 ما يقارب 181 ألف حالة طلاق، وهو رقم يعكس زيادة ملحوظة مقارنة ببداية العقد الماضي. وإذا وضعنا ذلك في سياق مقارن، سنجد أن نسب الطلاق في تركيا ارتفعت بنسبة تتجاوز 35% خلال العقد الأخير، بينما في بعض المدن الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة وإزمير تصل المعدلات إلى ما يعادل ثلث حالات الزواج تقريبًا.
هذا التزايد في معدلات الانفصال لم يُفسَّر فقط على أنه نتيجة لخلافات عاطفية، بل صار يُنظر إليه كظاهرة لها جذور اقتصادية وثقافية ونفسية. هنا برزت مبادرات "التدريب قبل الزواج" كأداة وقائية جديدة، تسعى لتجهيز الشباب والشابات بمفاهيم عملية تساعدهم على خوض مؤسسة الزواج بأقل قدر ممكن من المفاجآت أو سوء الفهم.
خلفية اجتماعية: لماذا يزداد الطلاق في تركيا؟
عند محاولة فهم أسباب الظاهرة، يشير الباحثون الأتراك إلى عدة عوامل متداخلة:
- الضغوط الاقتصادية: ارتفاع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة أثّر على استقرار كثير من الأسر، خصوصًا حديثة الزواج.
- تغيّر الأدوار التقليدية: النساء دخلن بقوة إلى سوق العمل، ما خلق أحيانًا صدامًا مع التصورات التقليدية عن دور المرأة داخل الأسرة.
- التحولات الثقافية: الجيل الجديد أكثر وعيًا بحقوقه الفردية وأقل استعدادًا لتحمل علاقات غير مُرضية.
- ضعف مهارات التواصل: غياب ثقافة النقاش وحل المشكلات بالطرق السلمية يؤدي إلى تراكم خلافات صغيرة تتحول سريعًا إلى قضايا كبرى.
هذه العوامل وضعت الحكومة والمجتمع المدني أمام تحدٍّ واضح: كيف ننتقل من مرحلة "إصلاح ما بعد الطلاق" إلى "الوقاية المسبقة"؟ وهنا جاء دور برامج التدريب قبل الزواج.
من فكرة إلى برنامج منظم
بدأت الفكرة كمبادرات محدودة تقودها جمعيات محلية ومراكز أبحاث أسرية. لكن مع تزايد القلق من ارتفاع نسب الانفصال، تبنّت وزارة الأسرة والخدمات الاجتماعية هذه البرامج، ووضعتها تحت إطار رسمي مدعوم.
اليوم، تُقدَّم الدورات في عدة ولايات تركية من خلال:
- البلديات الكبرى: حيث تُنظَّم ورش عمل مجانية للمقبلين على الزواج.
- المستشفيات ومراكز الرعاية: حيث يُشترط أحيانًا حضور دورة قصيرة قبل إتمام معاملات الزواج المدني.
- الجامعات والمعاهد: التي تُدخل مفاهيم "التربية الأسرية" في أنشطة طلابية أو محاضرات توعوية.
البرنامج لا يُطرح باعتباره "امتحانًا" للزواج، بل باعتباره خدمة استشارية وقائية. مدة الدورات تتراوح بين 3 إلى 6 أيام، تتخللها محاضرات، أنشطة جماعية، ومواقف محاكاة (Role Play).
ماذا يتعلم المشاركون؟
المناهج صُمّمت بطريقة عملية بعيدة عن الخطاب التقليدي. أهم محاورها:
- التواصل الفعّال: كيف يستمع الطرفان لبعضهما وكيف يُعبّران عن احتياجاتهما دون اتهام أو صدام.
- إدارة الخلافات: وضع استراتيجيات لحل النزاعات، مثل التفاوض أو الاستعانة بطرف ثالث محايد.
- الوعي النفسي: فهم تأثير الطفولة والتجارب السابقة على سلوك كل طرف داخل العلاقة.
- التوازن المالي: تقديم نصائح لإدارة الدخل والإنفاق، وهي نقطة حساسة في بلد يعاني من تقلبات اقتصادية.
- التربية المشتركة: كيفية الاتفاق على أسلوب موحّد لتربية الأبناء مستقبلًا.
إضافة إلى ذلك، يجري أحيانًا إدخال وحدات عن الحقوق القانونية داخل الزواج، حتى يكون الطرفان على دراية بالتزامات وحقوق كل منهما أمام القانون التركي.
أرقام وتأثيرات أولية
حتى الآن، لا توجد دراسة وطنية شاملة تؤكد أن التدريب قبل الزواج خفّض نسب الطلاق بشكل مباشر، لكن بعض المؤشرات الأولية مشجّعة:
في ولاية "قونية"، أشارت إحصائية محلية عام 2022 إلى أن الأزواج الذين خضعوا لدورات ما قبل الزواج أظهروا معدلات انفصال أقل بنسبة 20% خلال السنوات الثلاث الأولى مقارنة بغيرهم.
في إسطنبول، أُجري استطلاع شمل 500 مشارك في هذه الدورات، وأفاد أكثر من 70% منهم بأنهم شعروا بزيادة في "الثقة" و"القدرة على التفاهم" بعد التدريب.
رغم أن هذه البيانات محدودة النطاق، إلا أنها تُستخدم كحجّة من قبل مؤيدي البرامج للدفع بتوسيعها على مستوى وطني.
هل تركيا حالة خاصة؟
مبادرات التدريب قبل الزواج ليست اختراعًا تركيًا خالصًا. في ماليزيا مثلًا، يُشترط على كل من يرغب بالزواج حضور دورة إلزامية تغطي الجوانب الدينية والقانونية والعملية. وفي الأردن بدأت وزارة الأوقاف منذ سنوات بتنظيم ورش مشابهة للمقبلين على الزواج. أما في أوروبا الغربية، فغالبًا ما تتولى الكنائس أو المراكز الاجتماعية تقديم برامج استشارية تطوعية.
ما يميز التجربة التركية أنها تأتي في بيئة تشهد صراعًا بين الحداثة والتقاليد. فالمجتمع التركي ليس محافظًا بالكامل ولا متحررًا بالكامل، بل يقع في منطقة وسطى تتأثر بالغرب من جهة، وبالتقاليد المحلية من جهة أخرى. لذلك، برامج التدريب تُصمَّم لتكون عملية وعلمانية الطابع، لكنها في الوقت نفسه تراعي القيم الثقافية المحلية.
تجارب واقعية
بدلًا من الشعارات العامة، تُظهر التجارب الفردية كيف يمكن لهذه البرامج أن تُحدث فرقًا.
أوزليم (27 عامًا)، معلمة من أنقرة، تقول إنها دخلت الدورة مترددة، معتبرة أن "الحب يكفي". لكنها اكتشفت خلال النقاشات أن بعض خلافاتها مع خطيبها مرتبطة بتوقعات غير واضحة حول المسؤوليات المالية. تقول: "بعد الدورة، صار عندنا خطة عملية للميزانية، وهذا جنّبنا مشاكل مبكرة."
أحمد (30 عامًا)، موظف في قطاع خاص، يروي أن جلسة "التواصل الفعّال" غيّرت نظرته تمامًا: "كنت أظن أن الجدال معناه انتصار أحدنا على الآخر. اكتشفت أن النقاش يمكن أن يكون وسيلة لفهم أفضل وليس معركة."
في المقابل، هناك من يرى أن الدورات ليست عصا سحرية. نسرين (32 عامًا)، التي حضرت البرنامج ثم انفصلت بعد عام من الزواج، تقول: "المشاكل الاقتصادية كانت أكبر من أن يحلها أي تدريب. لكن الدورة علّمتني على الأقل كيف أتعامل مع الطلاق بوعي أكبر."
هذه القصص تعكس أن التدريب ليس ضمانة مطلقة، لكنه قد يكون فارقًا بين علاقة تنهار بسرعة وأخرى تحاول أن تعالج مشاكلها بشكل واعٍ.
النقد والجدل
رغم الإشادة بهذه المبادرات، إلا أن هناك نقاشًا مجتمعيًا حولها:
- الجدوى الحقيقية: بعض الخبراء يعتبرون أن نسب الطلاق مرتبطة بالاقتصاد أكثر من أي شيء آخر، وبالتالي فإن أي تدريب لن يُجدي إذا لم تتحسن الظروف المعيشية.
- المسألة الثقافية: في بعض المناطق الريفية، لا يزال يُنظر إلى هذه الدورات بعين الشك، باعتبارها "تدخّلًا في شؤون الأسرة الخاصة".
- التطبيق غير المتكافئ: تختلف جودة البرامج بين مدينة وأخرى، وبعض المشاركين اشتكوا من أن المدربين غير مؤهلين بما يكفي.
- مع ذلك، فإن الطابع التطوعي والوقائي لهذه الدورات جعلها أقل إثارة للجدل مقارنة بسياسات أخرى تُفرض بشكل إلزامي.
نحو سياسة عامة؟
الجدل الآن في تركيا يدور حول: هل يجب جعل هذه البرامج إلزامية كما في ماليزيا وبعض الدول العربية، أم تبقى اختيارية؟ مؤيدو الإلزامية يقولون إن ذلك سيخلق وعيًا عامًا شاملًا، بينما المعارضون يحذرون من أن فرض التدريب قد يجعله مجرد إجراء شكلي يفقد قيمته.
وزارة الأسرة تدرس حاليًا مشروعًا لتوحيد المناهج وتدريب المدربين بشكل أفضل، مع هدف طموح هو الوصول إلى مليون مشارك سنويًا بحلول 2030.
بين التحديات والفرص
ظاهرة الطلاق في تركيا ليست مجرد إحصائية باردة، بل مرآة تعكس تحولات المجتمع بأسره: من الاقتصاد المتقلب، إلى صعود الفردانية، مرورًا بالتحولات الثقافية بين الأجيال. مبادرات التدريب قبل الزواج ليست الحل السحري، لكنها محاولة لإعادة تعريف الزواج كمؤسسة تحتاج إلى وعي ومهارة مثل أي مشروع مهم في الحياة.
نجاح التجربة التركية لن يُقاس فقط بعدد حالات الطلاق التي ستنخفض، بل بقدرتها على خلق جيل أكثر استعدادًا لمواجهة التحديات اليومية للعلاقات الأسرية. وفي بلد يتأرجح بين التقاليد والحداثة، قد تكون هذه المبادرات واحدة من أكثر الأدوات واقعية وملاءمة لبناء أسر أكثر صلابة واستقرارًا.