لو أن روسيا قررت إقامة قاعدة صواريخ على مقربة من السواحل الأمريكية، فماذا ستفعل واشنطن؟
الجواب معروف. أزمة الصواريخ الكوبية التي اندلعت في عام 1962، كادت أن تدفع القوتين العظميين إلى مواجهة نووية، لم يفصل بيننا وبينها سوى بضع ساعات، قبل أن يمكن الضغط على الأزرار.
الكثير من تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كان يرتبط بتلك المواجهة. كما ارتبط بها سباق التسلح نفسه الذي لم يتوقف من الناحية العملية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وذلك برغم اتفاقيتي "ستارت -1" و"ستارت -2" لخفض الترسانات النووية بين البلدين، واللتين وُقعتا في عام 1991 وفي عام 2010 على التوالي.
الوجه الجديد لسباق التسلح يتخذ الآن من تطوير صواريخ "فرط صوتية" مسارا لم يكن معروفا في ذلك الوقت. إلا أن الحقيقة هي أن أزمة الصواريخ الكوبية، كشفت للطرفين، وللعالم، كم أن التوازنات القائمة بينهما هشة، وكم أنها قابلة للانهيار عندما يحدث فيها أي خلل.
إذا كانت الولايات المتحدة لم تستوعب مجرد فكرة أن يقوم الاتحاد السوفييتي بنصب صواريخ في كوبا، فالسؤال الذي لا مفر منه هو، كيف يجوز للولايات المتحدة وحلف الناتو، أن يحوّلا أوكرانيا إلى قاعدة صواريخ؟
خلط الأوراق قد ينفع لدعم الحُجّة أو الحُجَّة المضادة، ولكن الأساس هو أن روسيا لا تستطيع أن تستوعب مجرد فكرة أن تحمل الولايات المتحدة صواريخها لتنصبها على حدودها مباشرة، وذلك بمجرد قبول عضوية أوكرانيا في الناتو.
أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة طبعا. ويحق لها أن تفعل ما تشاء. وذلك مثلما كانت كوبا دولة مستقلة وذات سيادة. ولكن التوازنات الاستراتيجية بين القوى العظمى قليلا ما تنشغل باحترام معايير السيادة المحلية عندما تكون المخاطر عابرة من فوقها أصلا.
ولقد تصرفت روسيا بالفعل، باندفاعات تجاه أوكرانيا منذ الانقلاب السياسي فيها الذي حوّلها من حليف يدور في فلك موسكو إلى خصم يدور في فلك الاتحاد الأوروبي والناتو.
مارس الأوكرانيون حقا مشروعا من حقوقهم باختيار وجهة أخرى لمستقبل علاقات بلادهم. وفي أعين غالبيتهم العظمى فإن روسيا لا تقدم نموذجا سياسيا ولا حتى اقتصاديا مغريا.
في عام 2014 استولت أو "استردت" روسيا شبه جزيرة القرم التي كان الرئيس السوفييتي، الأوكراني الأصل، نيكيتا خروتشوف، "أهداها" إلى أوكرانيا في عام 1954.
و"الإهداء" لم يكن في الواقع سوى إجراء مألوف بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي بنقل إدارة بعض المناطق من جمهورية سوفييتية إلى أخرى، وفي الغالب لأسباب فنية. وبالنسبة للقرم، فإن السبب "الفني" الوحيد هو أن الرابط البري معها يمر عبر أوكرانيا.
القرم الآن جزء من الأزمة التي أدت إلى فرض عقوبات صارمة ضد روسيا منذ عام 2014 الذي شهد طردها من مجموعة "الدول الصناعية الثماني". وهو ما يكشف حجم القسوة في رد الفعل الغربي تجاه روسيا، حتى عندما تعلق الأمر باستعادة جزء من أراضيها.
اختيار كييف للسبيل الأوروبي، دفع الموالين لروسيا في شرق البلاد، إلى اختيار السعي للانفصال. فاندلعت الحرب التي ما تزال فصولها جارية حتى اليوم بين هدنة ومناوشات متفرقة.
القرم، ربما لم تكن لتستحق أن تكون موضع جدل لو لم يأخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المبادرة بالقوة، وعلى حين غرة، فاجأت نظراءه الغربيين. ولكن السؤال هو: هل كان يملك بالفعل خيارا آخر؟
هناك اتفاقان لتسوية الأزمة بين كييف وإقليم دونباس، هما "مينسك 1" و"مينسك 2"، اللذان وُقعا في سبتمبر 2014 وفبراير 2015 على التوالي. وبرغم أن موسكو وباريس وبرلين تردد أن اتفاق "مينسك 2" هو الإطار الوحيد لحل شامل، فإن لكييف، كما لموسكو، دوافع مختلفة لعرقلة تنفيذهما.
موسكو ما تزال تتطلع إلى أن تُعيد أوكرانيا إلى الفلك الروسي، وتنظر إليها على أنها جزء من مجالها الحيوي، الاستراتيجي والاقتصادي، بل والثقافي أيضا. بينما تريد "كييف"، ذات الميول الأوروبية، أن تتحصن خلف الأزمة لكي تكرس انتماءها إلى الطرف الآخر لتحصل على دعمه ومساعداته، كما أنها لا تريد أن تقدم تنازلا إداريا على جزء حيوي من أراضيها، يمكن أن يتحول في وقت لاحق إلى عامل يمكنه تغيير معادلة الخيارات الأوروبية نفسها.
الأزمة بين روسيا من جهة، وبين الولايات المتحدة والناتو وأوروبا وأوكرانيا من جهة أخرى، قابلة للانفجار في أي وقت. ومسرح المعركة في إقليم دونباس جاهز أصلا. والأوراق التي يمكن خلطها كثيرة.
ولكن الأمر الفاصل في النهاية هو: هل تكون أوكرانيا قاعدة صواريخ أطلسية؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يبدو الرئيس بوتين على حق. حتى ولو كان يجوز الجدل في كل شيء آخر.
كل ما قد يفعله بوتين سيكون أقل بكثير مما كان فريق إدارة الرئيس جون كينيدي يهدد بفعله في عام 1962.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة