لايزال تهويد القدس بشطرَيْها الهدف الأساسي لليهودية العالمية، وإسرائيل تسخّر الحفريات والتنقيب عن الآثار للاستيلاء
اشتعلت انتفاضة البراق ضد الأطماع اليهودية في المقدسات الإسلامية وضد الانتداب البريطاني المتواطئ مع الصهيونية والمعادي للعرب والمسلمين في عام 1929م؛ على أثر الاستيلاء على حائط البراق الحائط الغربي لساحة المسجد الأقصى بحجة أنه حائط المبكى، فقاوم الفلسطينيون الأطماع الصهيونية وتصدوا لها وواجهوها، وعرضت حكومة الانتداب البريطاني القضية على عصبة الأمم وشكلت العصبة لجنة تحقيق دولية للتحقيق في ملكية الحائط الذي يسميه المسلمون حائط البراق، ويطلق عليه اليهود حائط المبكى، حينها أثبت العرب للجنة الدولية أن الحائط هو حائط البراق وهو بناء إسلامي لا علاقة له بهيكل سليمان.
وجاء في قرارات اللجنة الدولية في كانون الأول عام 1930م ما يلي: أولاً، للمسلمين حق الملكية وحدهم دون منازع في امتلاك الحائط الغربي كجزء لا يتجزأ من منطقة الحرم القدسي الشريف. ثانياً، تعود ملكية الساحة أمام الحائط الغربي أي ما تطلق عليه إسرائيل ساحة المبكى للمسلمين أيضاً، وكذلك حي المغاربة المجاور والمقابل الذي يعتبر وقفاً ثابتاً وفق الشريعة الإسلامية.
وتصاعدت حدة الأطماع اليهودية في مدينة القدس إلى أن احتلت إسرائيل الشطر الغربي من المدينة عام 1948م، وطردت منه سكانه العرب والبالغ عددهم آنذاك 60 ألفاً، وأعلن بن غوريون مؤسس إسرائيل عزمه على احتلال القدس بأسرها بما فيها المسجد الأقصى وتدميره، معتبراً أنه لا معنى لإسرائيل دون القدس ولا معنى للقدس دون الهيكل.
أبناء فلسطين والعرب والمسلمون ومعظم دول العالم أثبتوا أن عروبة القدس وإسلاميتها رهن بفلسطين، وأي عمل عدواني وتدميري يلحق بها يهدد عروبتها ومصيرها وإسلاميتها فإنه مرفوض عربياً وعالمياً
تلك الدلالات التراثية والدينية والحضارية جميعها تمنح القدس أهمية بالغة بمنزلتها المقدسة، وإبراز مكانتها لا يعني التقليل من أهمية ومكانة فلسطين ولا فصلها عن باقي الوطن المحتل، فكل شبر من أرض فلسطين له مكانته التاريخية والحضارية بل تمثل رمزاً لقدسية الأرض والشعب معاً.
لايزال تهويد القدس بشطرَيْها الهدف الأساسي لليهودية العالمية، وإسرائيل تسخّر الحفريات والتنقيب عن الآثار للاستيلاء على الأرض واستيطانها بعيداً عن روح الحضارة والإنسانية، وقد أدت الإجراءات التي قامت بها إسرائيل إلى اتخاذ الأمم المتحدة والجمعية العامة العديد من القرارات الهامة للحيلولة دون تهويد القدس، وعدم تغيير مركزها القانوني.
وإسرائيل لم تتوقف في يوم من الأيام عن التلويح بأن القدس هي العاصمة الأبدية لدولتهم، وقامت خلال سنوات عمر السلطة الفلسطينية وأثناء اللقاءات والمفاوضات مع منظمة التحرير بفرض سياساتها التهويدية في المدينة لتغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي في المدينة بما يخدم مصالحها، ولأن الدول العربية باتت في حالة من الصراعات الداخلية وهذا ما يضعف موقف الجانب الفلسطيني الذي يرى نفسه يحارب وحيداً توجهات المجتمع الدولي، ومواقف خطيرة على البيئة الداخلية لمدينة القدس خصوصاً ما يتعلق بوضع المقدسات الإسلامية التي تتولى إدارتها السلطات الأردنية، وهو ما يعني عملياً أن لإسرائيل الحق في الوصاية والسيطرة على كافة معالم مدينة القدس، ويعطيها غطاء قانونياً لتدمير تلك المعالم دون رقيب بعد إعلان ترامب بقراره القدس عاصمة للكيان الصهيوني.
ويأتي القرار وسط تفاعلات ما ينتاب المنطقة من هزات سياسية واشتباكات تؤثر على الحسابات السياسية في المنطقة لصالح دولة الاحتلال، ويظهر بشكل أو بآخر دور إسرائيل كقوة سياسية تحظى بتأييد الإدارة الأمريكية، ويظهر قدرة اللوبيات الصهيونية في التأثير على القرار الأمريكي بما يخدم مصالح دولة الغدر والعدوان، وتبعات اتخاذ مثل هذا القرار تنطوي عليه محاذير خطيرة تهدد العملية السياسية وجهود السلام في المنطقة، ولم يدر في خلد ترامب وأركان إدارته أن أحداث المنطقة اليوم قد تنبئ بمؤشرات خطيرة وشاملة، وتؤول في نهاية المطاف إلى أن إسرائيل هي مصدر الخلل وتشكّل عائقاً في تحقيق السلام .
وفي ذلك أكد رون بن يشاي في مقال كتبه في صحيفة يديعوت أحرونوت في أن ما يحدث في العالم العربي يحمل كثيراً من الأخبار السيئة بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، وبالرغم من أن مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية يحاول الادعاء بأن الاضطرابات في المنطقة تبرز حقيقة كون إسرائيل جزيرة الاستقرار الديمقراطية في العالم العربي، لكن هناك شكوكاً فيما إذا كانت هذه الادعاءات تحسّن من وضع إسرائيل السياسي والأمني.
والمعطيات التي تتلقاها تل أبيب من سفاراتها في دول الاتحاد الأوروبي، وما آلت إليه تصريحات ومواقف تلك الدول توحي بوضع إسرائيل السيء للغاية، وأن غالبية دول وشعوب العالم تعتبر إسرائيل دولة عدوانية ومتطرفة بحق الفلسطينيين، وبعض هذه الدول بما فيها الدول الاسكندنافية تقاطع منتجات المستوطنات الصهيونية، وتمنع إدخالها إلى شبكاتها وأسواقها، وهكذا فإن قرار ترامب لن يكون الوصفة المناسبة والسحرية لأن قراراته الهوجاء التي يطلقها لا تعزز مسيرة السلام، ولا تنادي بحقوق الانسان ولا تتمحور حول مبادئ الديمقراطية المعاصرة، ولن تجد لأقواله وقراراته صدى مقبولاً في مواقع كثيرة من العالم، حتى أن المجتمع الدولي بشكل عام لا يعترف باحتلال إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967م وضمها إليها لاحقاً.
ومن أهم الخطوات السياسية أمام العرب والمسلمين تجاوز إجراءات الاستنكار وإطلاق البيانات الساخنة والرنانة، والعمل على خلق موقف فلسطيني موحد من خلال دعوة جميع الفصائل الفلسطينية لاتخاذ موقف واحد في الجانب الدبلوماسي والقانوني والشعبي، ودعم قرارات لجنة المقاطعة العربية ومقاطعة الشركات المتعاملة مع العدو الإسرائيلي، وأن يكون هناك موقف عربي موحد باعتبار قضية فلسطين موضوعاً جمعياً للعرب والمسلمين، ودون أن تتأثر الجهود الموحدة بالخلافات داخل البيت العربي .
العلاقات بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي تشهد توتراً منذ توقفت المفاوضات السياسية بين الجانبين منذ عام 2014م، والظروف التي تشهدها المنطقة حالياً دعمت التوجهات الأمريكية في موضوع اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها أكثر من أي وقت مضى.
قرصنة إسرائيلية بمشاركة سياسة ترامبية حدثت بتنسيق واحد ما بين ترامب ونتنياهو، وقد جرى تنفيذها بصورة مبرمجة بدقة وإحكام، وعن سابق تدبير وإصرار وتم تنفيذها بأبشع وأقسى صور الإجرام بالتخطيط مع التنظيمات العنصرية الإرهابية المتورطة في التخطيط والتدمير والتنفيذ لمسلسل الجرائم والانتهاكات، ومحاولات تدمير الأماكن المقدسة، وهذه التنظيمات العنصرية بلغ عددها أكثر من خمسة وعشرين تنظيماً ومن أبرزها " عطيرات كوهاييم " بمعنى التاج الكهنوتي، وقد نشأ هذا التنظيم عام 1987م ، ومعهد أبحاث الهيكل مقابل حائط البراق في البلدة القديمة، ومعهد بيت المقدس معهد إسرائيلي متطرف يسعى لإعادة بناء الهيكل المزعوم، وحركة أمناء جبل الهيكل حركة دينية متطرفة، ومدرسة الفكرة اليهودية مدرسة متطرفة، وجمعية الحركة التحضيرية للهيكل وتقع في مدينة القدس، وحركة الاستيلاء على الأقصى ظهرت عام 1968م، وتطالب بهدم فوري للأقصى وقبة الصخرة، وجمعية صندوق الهيكل وتهتم ببناء الهيكل المزعوم، وهذه التنظيمات العنصرية منتشرة داخل الأراضي الفلسطينية ومعظمها في المدينة القديمة، وهي على تواصل مع اللوبي الصهيوني الضاغط على إدارة ترامب فيما يتخذه من مواقف سياسية تشجع إسرائيل على القيام بدورها العنصري والاجرامي في المنطقة.
والخطر الحقيقي يبدو بخطوة ترامب الرعناء التي أقدم عليها، ولن تؤدي إلى اندلاع احتجاجات في القدس وحسب، بل وفي سائر أرجاء العالم، ولكنها قد تقوّض أيضا التعاون الأمني المتنامي بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، وما ينبغي أن يتذكره ذوو الشأن وأصحاب العقول، ومن يشكل أداة ضاغطة على الإدارة الأمريكية، من أن الحقيقة التي لا مناص من ذكرها ألا وهي أن الأمور لن تستقيم لإسرائيل مهما تلقت من مساعدات عسكرية وإغداقٍ مالي، طالما أنها تتخذ نهجاً عدوانياً سافراً، وإسرائيل تظل واهمة بكل حساباتها وبما تبديه مع الجانب الفلسطيني من عمليات جائرة بحقه واستلابٍ لمقدراته ومصيره.
فإذا كان بن غوريون قد حاول العمل على اختزال فلسطين بكاملها بالهيكل عندما زعم أن لا معنى لفلسطين دون القدس ولامعنى للقدس دون الهيكل، فأبناء فلسطين والعرب والمسلمون ومعظم دول العالم أثبتوا أن عروبة القدس وإسلاميتها رهن بفلسطين وأي عمل عدواني وتدميري يلحق بها يهدد عروبتها ومصيرها وإسلاميتها فإنه مرفوض عربياً وعالمياً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة