مقتل سليماني وحدود الرد الإيراني
مقتل قاسم سليماني بهذه الطريقة (هجوم بطائرة من دون طيار) وفي هذا التوقيت يطرح دلالتين لا تتوافقان مع حسابات طهران
رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة على انتخابات رئاسية في نهاية العام الجاري، فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اختارت في هذا التوقيت أن ترفع مستوى التصعيد مع إيران إلى درجة غير مسبوقة.
وشنّت واشنطن عملية عسكرية في العراق، في 3 يناير/كانون الثاني الجاري، أسفرت عن مقتل قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري قاسم سليماني وبعض المسؤولين العسكريين الإيرانيين إلى جانب عدد من الشخصيات الموالية لإيران في العراق، وفي مقدمتهم أبومهدي المهندس نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي".
وفي الواقع، فإن ذلك يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن الهجوم يتجاوز مجرد محاولة استغلاله من قِبل الرئيس الأمريكي في استقطاب دعم سياسي داخلي أكبر قبل الانتخابات، لا سيما في ظل تصاعد الجدل حول قضية العزل.
ورغم أن خطوة قتل سليماني أثارت بالفعل تجاذبات سياسية داخلية بين فريق مؤيد لها وآخر معارض، فإن أهم ما تمخض عنها من نتائج يتمثل في أنها توحي بتغيير آليات التعامل الأمريكي مع الإجراءات التي تتخذها إيران في الشهور الأخيرة من أجل الرد على العقوبات التي فرضتها واشنطن بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو/أيار 2018، وأنتجت تأثيرات وضغوطا غير مسبوقة على الاقتصاد الإيراني.
وقد بدأت الإدارة الأمريكية تدرك أن إصرارها على الاكتفاء برفع سقف العقوبات التي تفرضها على إيران، فضلا عن عدم اتخاذ إجراءات أخرى، لا سيما عسكرية، تجاه الخطوات الاستفزازية التي قامت بها الأخيرة، خاصة بعد أن أسقطت طائرة أمريكية من دون طيار في 20 يونيو/حزيران 2019، وجه رسائل خاطئة لها، دفعتها إلى الإمعان في تبني هذه الخطوات، وربما أغرتها بالعمل على استهداف المصالح الأمريكية من أجل تأكيد قدرتها على مواجهة العقوبات والضغوط الأمريكية.
ويبدو أن إيران كانت تخطط بالفعل للانخراط في مسار استهداف المصالح الأمريكية، خاصة بعد التهديدات التي أطلقها العديد من المسؤولين الإيرانيين والتي كان مفادها أن العقوبات الأمريكية لن تكون "بلا ثمن"، وأن إيران لديها من الخيارات ما قد يمكنها من الرد عليها.
ولذا، كان لافتا أن الضربة التي أدت إلى مقتل سليماني جاءت بعد فترة وجيزة من التحذيرات التي وجهها أكثر من مسؤول أمريكي من أن إيران قد تقدم على إجراءات استفزازية جديدة، ربما تكون أكثر خطورة من تلك التي أقدمت عليها في منتصف عام 2019 عندما بدأت في استهداف سفن وناقلات ومنشآت نفطية. إذ قال توماس مودلي القائم بأعمال وزير البحرية الأمريكي، في 27 ديسمبر 2019، إن إيران قد تقوم بأعمال استفزازية جديدة في مضيق هرمز وأنحاء مختلفة من الشرق الأوسط.
كما أنها جاءت بعد تزايد القلق الأمريكي من نقل إيران صواريخ باليستية قصيرة المدى إلى داخل العراق، للاقتراب بشكل أكبر من أهداف أمريكية حيوية عبر وكلائها المحليين، لا سيما مليشيا "الحشد الشعبي"، على نحو دفع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في 7 مايو/أيار 2019، للقيام بزيارة مفاجئة إلى بغداد، بعد إلغاء زيارة كانت مقررة سلفا إلى ألمانيا، من أجل نقل تحذيرات من مغبة السماح لطهران بتهديد المصالح الأمريكية.
وقد بدأت تلك المليشيات في تهديد المصالح الأمريكية بالفعل، على نحو بدا جليا في الهجمات الصاروخية المتكررة التي شنتها ضد بعض القواعد التي توجد بها قوات أمريكية في العراق، بشكل دفع واشنطن إلى توجيه ضربة لخمس قواعد تابعة لمليشيا "كتائب حزب الله العراق" داخل كل من سوريا والعراق، في 29 ديسمبر الفائت، قبل أن يقدم قادة وعناصر الأخيرة على محاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد بعد ذلك بيومين.
ملفات خلافية
لم يكن ردع إيران عن محاولة استهداف المصالح الأمريكية هو الرسالة الوحيدة التي سعت الإدارة الأمريكية إلى توجيهها لطهران عبر الضربة العسكرية التي أدت إلى مقتل سليماني. إذ كانت هناك رسالة أخرى لا تقل أهمية ومفادها أن الخلافات بين العاصمتين لا تنحصر في الاتفاق النووي، وإنما تمتد إلى الملفات الأخرى على غرار التدخلات الإقليمية ودعم الإرهاب إلى جانب برنامج الصواريخ الباليستية، فضلا عن انتهاكات حقوق الإنسان، وهي الملفات التي ينخرط فيها الحرس الثوري بشكل مباشر.
وبعبارة أخرى، فإن واشنطن سعت إلى إقناع طهران بأن حرصها على منح الأولوية لإنهاء العمل بالاتفاق النووي الحالي وإجراء مفاوضات جديدة للوصول إلى اتفاق آخر يستوعب تحفظاتها على الاتفاق الحالي والتي كانت سببا رئيسيا في انسحابها منه وفرضها عقوبات جديدة عليها، لا يعني أنها ستتغاضى عن الأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة، خاصة عندما تفرض تهديدات على مصالحها.
ولا ينفصل ذلك بالطبع عن سعي واشنطن إلى منع طهران من استغلال نفوذها في الإقليم لرفع كلفة العقوبات الأمريكية، عبر الإمعان في دعم حلفائها سواء نظام الرئيس السوري بشار الأسد أو التنظيمات المسلحة الموجودة في دول الأزمات على غرار سوريا ولبنان والعراق واليمن، وتهديد أمن الملاحة في الخليج العربي ومضيق باب المندب، بالتوازي مع تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، من خلال زيادة كمية ورفع مستوى اليورانيوم المخصب وإعادة عمليات التخصيب إلى منشأة فوردو التي تم تأسيسها تحت الأرض، حيث اتخذت طهران أربع خطوات في هذا الصدد، وربما تكون مقبلة على خطوة خامسة في الأيام المقبلة.
مستوى الرد
توحي ردود الفعل السريعة التي أبدتها إيران إزاء مقتل سليماني ومرافقيه بأن الخسارة تبدو فادحة بالنسبة لها. فخلال العقدين الماضيين، وتحديدا منذ عام 1998 عندما تولى الأخير قيادة "فيلق القدس"، نجح في دعم حضور إيران في المنطقة، مستغلا في هذا السياق التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية في الأعوام التالية، خاصة مع بدء الحرب الأمريكية ضد الإرهاب التي أدت إلى إسقاط أكبر خصمين إقليميين لإيران وهما حركة "طالبان" في عام 2001 والتي كادت سياستها أن تؤدي إلى اندلاع حرب مباشرة مع إيران قبل ذلك بثلاث سنوات، ونظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في عام 2003، الذي دخل في حرب مع إيران امتدت لثماني سنوات.
ودفع هذا الحضور إيران إلى المجاهرة أكثر من مرة بسيطرتها على أربع عواصم عربية؛ هي دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء. بل إن سليماني نفسه سبق أن أشار، في 23 نوفمبر 2011، إلى أن التطورات السياسية الداخلية التي تشهدها بعض الدول العربية "تخلق إيرانات جديدة" حسب قوله.
فضلا عن ذلك، فإن اغتيال سليماني بهذه الطريقة (هجوم بطائرة من دون طيار) وفي هذا التوقيت يطرح دلالتين لا تتوافقان مع حسابات طهران: الأولى، أنه يكشف عن وجود ثغرات أمنية كبيرة لم ينجح النفوذ الإيراني في احتوائها أو التعامل معها بشكل عرّض إيران في النهاية لمثل هذه الضربة الأمنية التي قد لا تستطيع استيعابها بسهولة.
والثانية، أن هذا النفوذ له حدود على الأرض، رغم كل المحاولات التي تبذلها إيران للترويج له وتضخيمه من أجل استحصال مكاسب استراتيجية عديدة من خلاله، وهو ما يتوازى مع تصاعد تأثير الاتجاهات المناوئة له في العواصم التي تدعي طهران سيطرتها عليها، مثل بغداد وبيروت، بعد أن كشفت الاحتجاجات الشعبية في لبنان والعراق مدى حجم الاستياء الشعبي من العواقب التي فرضها هذا النفوذ على الأحوال المعيشية في الدولتين.
من هنا، قد لا يكون حرص المسؤولين الإيرانيين، وفي مقدمتهم المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي الذي قام بزيارة منزل سليماني في اليوم نفسه الذي قتل فيه وترأس لأول مرة اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي لدراسة الخيارات المتاحة للرد، على التهديد بالانتقام للاستهلاك المحلي فقط، لإثبات قدرة النظام على استيعاب الضربة واحتواء تأثيراتها.
إذ ربما لا يكون الرد خيارا مستبعدا بالفعل من جانب طهران، ليس فقط لتقليص تأثيرات الضربة التي تعرضت لها، وإنما لمحاولة توجيه رسائل مضادة لدفع واشنطن إلى عدم تكرارها من جديد مستقبلا، في ظل استمرار التصعيد بين الطرفين، والذي يبدو مفتوحا على أكثر من مسار. وهنا، قد تعود إيران مرة أخرى إلى الآليات التقليدية نفسها التي سبق أن اتبعتها في فترات باستهداف مصالح أمريكية سواء داخل المنطقة أو خارجها، باعتبار أن المهم في كل الأحوال هو رفع كلفة اغتيال سليماني، رغم أن هذا الخيار سوف يدفع واشنطن بدورها إلى توجيه ضربات ربما تكون أكثر قوة وتأثيرا ضد طهران.
** د. محمد عباس ناجي: رئيس تحرير مجلة مختارات إيرانية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
aXA6IDE4LjExOS4xNjEuMjE2IA== جزيرة ام اند امز