ما الذي تريده الدوحة من تشاد لتدعو معارضي الحكومة للإقامة في فنادقها، وتقدم أموالاً وسلاحاً للمعارضين المتمردين
هالني حجم الإنفاق الذي تبذله قطر في الخارج. أرقام لا يمكن تصورها؛ مليارات الدولارات تخرج من خزينة الدوحة لأنشطتها الخارجية.
لم يذهب معظمها لإعانة البلاد المنكوبة بالمجاعات أو الكوارث البيئية، ولا لدعم أعمال المؤسسات الدولية الأممية، ولا طبعاً إلى دفع رواتب موظفي السلطة الفلسطينية، ولا حتى للاستثمار في أوروبا كما دأبت الحكومة القطرية وبعض أفرادها خلال السنوات الماضية.
الأموال الطائلة بدأ صرفها منذ التسعينيات، بتأسيس أبواق إعلامية مسيّسة بميزانية مفتوحة. دُفعت لموظفي هذه الأبواق، خصوصاً مذيعيها ومديري البرامج فيها، رواتب شهرية فلكية، لم تكن مقابل قراءة نشرة إخبارية؛ بل بغرض شراء موقف سياسي، حتى بات الإعلامي العربي يعمل من خلال هذه الأبواق، وبشكل مفاجئ، ضد حكومة بلاده وضد الحكومات التي تحددها سياسة هذه المنصة. ثم نعلم لاحقاً أن الموظف الذي جاء من بلده ليكسب رزقه، أو المسرّح من «بي بي سي» البريطانية، أصبح ميسوراً حدّ الثراء، يمتلك منزلاً فخماً وسيارات فارهة وعقارات، وأرصدة مكدسة في مصارف محلية وأجنبية.
زادت وتسارعت وتيرة هذا الإنفاق بعد الثورات والحروب الأهلية التي أصابت بعض الدول العربية بويلاتها في 2011. وتوسع هذا الإنفاق متجاوزاً الآلة الإعلامية إلى الدعم المالي المباشر أو اللوجيستي لجهات مختلفة يمكن تسميتها «الحرافيش»؛ منها «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» وغيرهما من المنظمات التي تنتمي لتنظيم القاعدة الدولي، وعملاء إيران في المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، وجماعة الإخوان المسلمين في اليمن وتونس ومصر والكويت وليبيا وموريتانيا والمغرب.
ما الذي تريده الدوحة من تشاد لتدعو معارضي الحكومة للإقامة في فنادقها، وتقدم أموالاً وسلاحاً للمعارضين المتمردين، ثم ترشوهم للذهاب والقتال في صفوف الجماعات المسلحة الليبية المنضوية تحت جماعة الإخوان المسلمين و«داعش» في ليبيا؟
هذه الاتهامات نظرياً لا يقبلها عقل، فكيف لدولة صغيرة تنتمي لمنظومة مجلس التعاون الخليجي الذي دائماً ما كان حمامة سلام لحل الخلافات، ويداً ندية لدعم العمل الخيري الدولي، أن ترتكب باختيارها كل هذه الأفعال الشريرة؟ لكن بكل أسف إن هذه الاتهامات في الواقع صحيحة، بل يتكشف المزيد منها مع مرور الوقت ورفع الدول المتضررة صوتها بالشكوى بعد طول صبر. لذلك، فإن المتفاجَئين من طرد دولة تشاد السفير القطري وغلقها السفارة، سيتفهمون موقف تشاد الغاضب، بعد ما قدمته من أدلة تدين ما تقوم به قطر من أعمال ضد استقرار دولة للتو بدأت تلملم نفسها، وتحل صراعاتها وتلتفت لتنميتها. ما الذي تريده الدوحة من تشاد لتدعو معارضي الحكومة للإقامة في فنادقها، وتقدم أموالاً وسلاحاً للمعارضين المتمردين، ثم ترشيهم للذهاب والقتال في صفوف الجماعات المسلحة الليبية المنضوية تحت جماعة الإخوان المسلمين و«داعش» في ليبيا؟
حتى نفهم الموقف التشادي، علينا أن نعرف أولاً بداية الرغبة القطرية للدخول في تشاد.
قطر استطاعت سرقة الثورة المصرية من خلال الإخوان المسلمين، وسرقت الثورة التونسية من خلال حركة النهضة الإخوانية، ولا تزال تعمل على ذلك في ليبيا، وأرادت الشيء نفسه في المغرب بدعم حزب "العدالة والتنمية" الذي فاز بالانتخابات في 2011، لكن استطاعت الأجهزة الأمنية المغربية تحجيم ذلك. والجزائر كانت مستعصية أيضاً بحكم قوة الحكومة والجيش الذي فهم الدرس منذ عام 1991، ولا طريق لزعزعة أمن الجزائر إلا من خلال الجنوب؛ مالي وموريتانيا تحديداً.
أرادت قطر إحكام سيطرتها على الساحل الإفريقي، ليس طمعاً في ثرواته، وإنما لتعزيز حضورها السياسي الدولي من خلال مشروع الإخوان المسلمين، خصوصاً أنها خطوات باركها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ودعمتها تركيا. لذلك ليس صحيحاً ما صرحت به وزارة الخارجية القطرية بأن تشاد تبتزها سياسياً أسوة بدول المقاطعة؛ السعودية ومصر والإمارات والبحرين، في إشارة إلى أن هذه الدول حرضت تشاد على طرد السفير القطري.
تشاد إحدى ضحايا النظام القطري الحاكم، ولديها، كغيرها من المتضررين، قصة تروى حول ممارسات حكومة قطر ضد استقرارها وأمنها؛ من ترحيل لمواطنين تشاديين بصفتهم مرتزقة للقتال بجانب الجماعات الإرهابية في ليبيا، ودعم قيادات التمرد في تشاد بالمال والسلاح لشغل الحكومة.
كل هذه الأنشطة خارج حدود قطر تم رصدها. في سوريا التي تعد المنطقة الأسوأ في الوضع الإنساني وشراسة المعارك، كانت قطر هي من شرذمت المعارضة منذ انطلاقها، من خلال أسلمتها، وصبغها بالصبغة الدينية، وتقديم ملايين الدولارات للفصيل الذي يتأسلم. امتحنتهم بالإغواء بالمال ووعود النصر والمناصب السياسية، حتى اختلفوا فيما بينهم، وتباينت مصالحهم وتشتت أمرهم، والنتيجة كما نراها اليوم. ولن تكون مفاجأة إن سمعنا في الغد أن هذه الفصائل بدلت مواقفها السياسية أو على الأرض، لأن التحالف القطري- الإيراني الذي حصل مؤخراً ستكون له انعكاسات في سوريا. ونلحظ مؤخراً أن الإعلام القطري بدأ في الترويج لفكرة أن إيران قوة لا يمكن للعرب هزيمتها، وأن الأجدى هو التصالح معها. وهذا ما لمح له حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله» في تصريح أخير بأن المعارضة في سوريا أصبحت أكثر وهناً بسبب الأزمة الخليجية.
لنا أن نتخيل كم من عوائد قطر أنفقت لإشعال الفتن والاحتراب في العالم، وكيف يمكنها محو كل هذه الجرائم من صفحة التاريخ، ونتخيل ماذا لو احتفظت بأموالها لنفسها! لربما أصبحت قطر الأعجوبة الثامنة في النماء، ومنارة للمعارف.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة