"رضوى عاشور".. أن تفتت الجبل بسيرة فراشة
رضوى عاشور في ذكرى رحيلها الثانية نتصفح مُنجزها الأدبي الشجي "أثقل من رضوى مقاطع من سيرة ذاتية"، العامر بالفرح والسخرية والألم والمحبة
"تستيقظ في الصباح مرهقة كأنها في نهاية يوم عمل مضن، تظن أنها غير قادرة على مغادرة الفراش والذهاب إلى عملها، ولكنها في نهاية المطاف، تقوم وتستعد للخروج إلى العمل وتخرج، تذهب إلى الجامعة تدرس، تحتفي بطلابها وزملائها، تبدو مشرقة ومقبلة، تمنح الأمل، كأنما بدأت يومها بقطف ثماره وأودعتها سلتين كبيرتين خرجت بهما لتوزيع ما فيهما على من يطلب ومن لا يطلب".
مشهد مفعم بالحياة والألوان، مشحون بالحركة والنبل، رسمته صاحبته بعناية وهي تستدعي يومياتها من مستودع ذاكرتها العميق، قبل أن تستودعها بين دفتي سيرتها الذاتية كمن تهدي وردة للعالم قبل الرحيل.
اليوم 30 نوفمبر، يوافق الذكرى السنوية الثانية لرحيل الأديبة المصرية الكبيرة رضوى عاشور، رضوى التي نتصفح في ذكراها مُنجزها الأدبي الشجي "أثقل من رضوى- مقاطع من سيرة ذاتية"، العامر بالفرح والسخرية والألم والمحبة، السيرة المدونة بحكائية رائقة لا تبعد عن أسلوب صاحبة "ثلاثية غرناطة"، و"الطنطورية"، "فرج"، و"أطياف"..
لن تتركك رضوى كثيرا لمحاولة إضفاء معانٍ ومجازات حول عنوان سيرتها، تعفيك من هذا الجهد وتحكي لك مباشرة حكاية تسمية جدها لأمها لها باسم "رضوى"، على اسم جبل "الرضوى" الكائن بالقرب من المدينة المنورة، وهو الذي كان العرب يضربون به المثل في الرسوخ فيقولون "أثقل من رضوى"، وهو المثل الذي اختارته عنوانا لسيرتها الذاتية، وتلخيصا لعالمها الذي كان طالما يمر بصعاب أثقل من جبل، وكانت تديره هي بصلابة محاربة وبقلب أخف من فراشة.
كتبت السيرة في أيام صعبة، تلك التي اشتد فيها المرض عليها في سنوات عمرها الأخيرة، كانت تكتبها بخفة وكأنها تأنس بعمرها الفائت، وكأنها تطبق حرفيا ما كتبته يوما في رائعتها "ثلاثية غرناطة" عندما تساءلت: ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة؟ ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججا وملونا لكي يتحمل عتمة ألوانه؟
تتذكر رضوى ملامح أحلامها كطفلة في سنوات عمرها الأولى، وهي تنتقل مع والدها المحامي وأمها وشقيقها الأكبر طارق ابن الـ4 سنوات آنذاك إلى منزلهم الجديد الذي يطل على النيل وكوبري عباس "سأتعلم المشي والكلام في هذه الشقة، وأتحول من طفلة تحبو أو تتعثر في خطواتها الأولى إلى تلميذة في الحضانة ثم في المرحلة الابتدائية تحمل حقيبة بها دفاتر وكتب وأقلام".
تتراءى لرضوى ومضات من بيتها الأول وهي تكتب سيرتها الذاتية بعد أن تجاوزت الـ60، تتذكر أمها "مية" التي على حد تعبيرها "استبدلت ميولها الفنية المبكرة سواء في الرسم أو نظم الشعر وعزف البيانو بالاهتمام بأناقة صغارها.. فعلت ذلك وهي راضية مرضية، لم تخف الأم دهشتها وهي ترى رضوى تتجه لطلة صبيانية وهي في مطلع مراهقتها متمردة على مظهر الدمية الذي كانت تتفنن (مية) في تنقيحه كل يوم".
تستدعي رضوى وافر حنينها لأمها الراحلة وهي في شدة ألمها، وتتابع "في ضوء هذا الاهتمام بشكلي وملابسي وقناعة أمي العميقة أن الله منحها ابنة (حلوة) ستفهم يا سيدي القارئ تخيلي لبكائها وقد أعمل الجراحون مشارطهم في رأس ابنتها وساعدها وفخذها، بعد أن أعملوه سابقا في أماكن أخرى من بدنها، بما يشوه المنتج الأصلي ويغير من ملامحه"، تتحدث وهي بصدد إجراء جراحة خطيرة لاستئصال ورم من الدرجة المتقدمة.
"لا أحتاج في حالة كتابة السيرة الصريحة سوى النظر حولي وورائي وفي داخلي لأرى أو أتذكر"، تتذكر رضوى على مدار صفحات سيرتها (الصادرة عن دار "الشروق" المصرية 2003)، وتطيل النظر وهي تلتقط لحظات تعتذر للقارئ على اجترار قسوتها لا سيما القارئات مرهفات الحس "عليّ أن أعترف بالذنب يا سيدتي القارئة، أنني أشعر بالذنب لإشراكك في كل هذه التفاصيل التي أرجح أنها جعلتك تضعين بجوارك علبة مناديل ورقية لمسح دموعك أو التمخط المرة تلو المرة حتى تورم جفناك وصار أنفك أحمر.. كيف أكفر عن ذنبي؟"
تحكي عن تلك الفترة التي سبقت قرارها بالسفر للولايات المتحدة للعلاج، بعد أن عجزت عن التعامل مع ورم خلف أذنها كان يخبو ويعود بلعنته حتى وصل إلى حجم "برتقالة" كما تصف، الأمر الذي أبعد التشخيص المطمئن له بأنه مجرد "ورم حميد" فاضطرت لمتابعة هذا التطور الخطير وتقول "ستتصور يا سيدي القارئ أن هذه هي الدراما التي أتحدث عنها، ولكن الدراما لم تكن في معرفتنا بأن الورم مختلف، أو شكوكنا في طبيعته ولا في إصرار صديقنا الجراح على التعامل السريع معه، ولا في إلحاح ابني وزوجي لإقناعي بالسفر، لم تكن هذه الأمور سوى الهوامش أو البرولوج، وهو بلغة المسرح المدخل السابق مباشرة للفصل الأول".
أفردت لحياتها الجامعية وفصولها الطويلة ذكرا وفيا في سيرتها الذاتية، لا سيما جولاتها هي وزملائها من الأساتذة الجامعيين من حركة "9 مارس" المطالبة باستقلال الجامعة. وخصصت فصلا كاملا حول علاقة أسرتها الصغيرة بالشعر والشعراء، وعلى رأسهم "الحدادين والجواهين"، نسبة عائلتي إلى فؤاد حداد وصلاح وجاهين، وبالطبع رفيق الدرب محمود درويش الذي اقتبست قصيدة رثاء زوجها الشاعر الكبير مريد البرغوثي له.
أما مشروعها الروائي فلم تعزله رضوى عاشور عن دورها الإنساني كمعلمة ومربية للأجيال، هكذا تستنبط من توقفها عند شخصية "مريمة" بطلة رائعتها "ثلاثية غرناطة"، فتقول "أنا مُدرسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلا غير أخلاقي، قلت ذات مرة إن كل كتاباتي الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة، قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة منفية.. أنهيت رواية "ثلاثية غرناطة" بعبارة "لا وحشة في قبر مريمة" وعلقت في محاضرة لي على ذلك قائلة: ثلاثية غرناطة لها طعم المراثي، يسري فيها خوف امرأة من القرن العشرين، دارت عليها وعلى جيلها الدوائر، فشهدت نهايات حقبة من التاريخ هو تاريخها، ولكن التاريخ لا يعرف الخوف، إنه صاحب حيلة ودهاء، له مساربُه وديامسُه ومجاريه، لا شيء يضيع، هكذا أعتقد، ولذلك أفهم الآن لماذا تنتهي روايتي بوصف قبر مريمة".
تحولك سيرة الذاتية لرضوى عاشور لقارئ بخفة ريشة، تتنقل بسلاسة من تاريخ "مريمة" وسيرة الأندلس الحزينة، لا سيما وهي واحدة من أبرع من كتب الرواية التاريخية، ومنها رأسا إلى جدران غرفة عمليات باردة في الولايات المتحدة الأمريكية، تدير فيها رضوى حوارات مع جراحين لا يعرفون سوى المشارط والتقارير الطبية لغة للحوار، فهذه طبيبة التجميل تطرح على رضوى بدائل للتعامل مع شعرها الذي لابد أن تطوله يد المشرط، أحدها "أن ندير فروة الرأس بالكامل ونجعل الغطاء الجلدي الذي سنزرعه في منطقة أخرى من الرأس بما يتيح إخفاءها بباقي الشعر".
تتقاطع في سيرة رضوى عاشور السخرية مع الشدة، والأمل مع الأنين، والمرض مع بشائر الثورة، تتذكر الثورة التونسية "تصادف إذن أن أكون في مسرح العمليات بين أيدي جراحين يُعملان مشارطهما ومعارفهما في رأسي، وتونس تشتعل بعد أن أحرق البوعزيزي نفسه". تتواصل مع ثورة "اللوتس" عبر الـ"يوتيوب" وهي في القارة الأمريكية، تبكي وهي تستمع للشعار الأيقوني آنذاك "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية".. تقول "أنا رضوى بنت مية ومصطفى، المرأة الستينية التي هرمت من أجل لحظة من هذا النوع".
تواصل متابعتها للحدث الثوري الذي امتد إلى مصر موطنها "حتى دخلت إلى فراشي ليلة 24 يناير لم أكن أفكر فيما يحدث غدا تمر ساعات قليلة، مع مراعاة فروق التوقيت بين القاهرة وواشنطن، فحين غادرت فراشي، وجدت تميم مستيقظا كان يجلس بجوار أبيه كل أمام كمبيوتره، صاحا في صوت واحد متهلل: حصل!"
تشاهد رضوى عبر الوسيط الإلكتروني أنهارا بشرية تتدفق إلى ميدان التحرير، مشاهد تنسيها مؤقتا منفاها الإجباري في الولايات المتحدة، تستشهد بقصيدة الابن تميم البرغوثي التي كتبها يوم ثورة 25 يناير ليلا "يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم".
تهديك رضوى تميمة للحياة وهي على فراش الموت.. لن تفرق فيها بين رضوى الإنسانة وبين الأديبة والمناضلة.. تهديك في نهاية سيرتها ملاذا تتكئ عليه بثبات ما تبقى لك من عمر بقولها "هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا".
aXA6IDE4LjE4OC4yMTkuMTMxIA==
جزيرة ام اند امز