محمد راضي.. مخرج "أبناء الصمت" يرحل في هدوء
من مفارقات القدر أن تأتي وفاة المخرج المصري محمد راضي في شهر أكتوبر المتزامن مع ذكرى احتفالات نصر السادس من أكتوبر عام 1973.
من مفارقات القدر أن تأتي وفاة المخرج المصري الكبير محمد راضي في شهر أكتوبر/تشرين الأول المتزامن مع احتفالات العبور، وهو المخرج الذي قدم واحدا من أهم الأعمال التي رصدت فترة حرب الاستنزاف التي مهدت لنصر 6 أكتوبر/تشرين الأول العظيم وهو فيلم (أبناء الصمت) الذي أنتج عام 1974، بالإضافة إلى أفلام أخرى في الاتجاه نفسه وهي (العمر لحظة) عام 1978، (وراء الشمس) الذي يدور حول المعتقلات السياسية خلال فترة نكسة يونيو/حزيران، وأخيرا فيلمه "حائط البطولات" الذي انتهى من إخراجه عام 1999، لكنه بقى في الأدراج أكثر من 12 عاما.
في ثلاثيته (أبناء الصمت - العمر لحظة - وراء الشمس) سوف نلمح ذلك القاسم المشترك لأسلوب مخرج كلاسيكي متجدد يعرف كيف يشحن المتفرج بقطع متوازٍ أو متتالٍ بالفارق الكبير بين جبهتين متناقضتين إلى حد كبير في أكثر لحظات الوطن سخونة ليخرج من رحم هذا الصراع دراما واقعية اجتماعية مرهفة بالدلالات والتفاصيل المثيرة الأقرب للكابوسية.
وفي فيلمه الأول المأخوذ عن رواية المبدع «مجيد طوبيا»، يدفع أبناء الصمت حياتهم ليسددوا بها فواتير التفريط الداخلي، حيث يموت المصريون الحالمون بوطن حر مرفوع الرأس بينما يحيا الإعلامى الذي يبرر، والمناضل الحنجوري، والممثلة الضائعة في نزواتها، والمسؤول الذي يستغل موقعه ليحقق الثراء، ويعد من أفضل الأفلام التي صنعت من أجل حرب أكتوبر المجيدة، وأنتجها راضي.
وأحداث الفيلم تدور في 22 أكتوبر 1967، عندما أغرق المصريون المدمرة إيلات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه جن جنون العدو فضرب مدينة الزيتية بالسويس، وبلغت حرب الاستنزاف ذروتها مع العدو الإسرائيلي، والجنود على حافة القناة، يهبطون خلف خطوط العدو في سيناء، ملحمة من ملاحم النضال في تاريخ الشعوب المكافحة، تستمر هذه العميات مع هؤلاء الجنود الفدائيين إلى يوم العبور فى 6 أكتور 1973 وتحطيم خط بارليف، كل ذلك عبر تصاعد درامي وكاميرا لاهثة تتحرك فوق الجبهتين الداخلية والخارجية بأسلوب متدفق يحفز التتبع ويرصد الصراع ومتناقضاته بتصوير مدهش.
أما فيلمه (العمر لحظة) الذي يلخص لكاتب الرواية يوسف السباعي مقولة "إن العمر لحظة.. قد يعيش الإنسان حياته كلها دون أن يجد تلك اللحظة التي تُجسد عمر بأكمله وقد لا يعيش إلا تلك اللحظة فتغنيه عن أي سنوات إضافية".. وراضي يستغل هذا المعني من بين سطور أحداث نكسة 67 وهزيمة الجيش المصرى، عبر قصة "نعمة" الصحفية المتزوجة من رئيس تحرير له نزواته الخاصة، وتنصب مقالاته على اليأس من الحرب ضد إسرائيل، إلا أن الزوجة تجاهلت ذلك واتجهت إلى العمل التطوعي وسافرت إلى جبهة القتال لرفع الروح المعنوية للضباط والجنود والكتابة عن حرب الاستنزاف، حيث تلتقي "محمود" ضابط الصاعقة ويقع الحب بينهما ثم تنشب حرب أكتوبر 73 وينتصر الجيش المصري، وتنفصل "نعمة" عن زوجها وتتزوج "محمود" البطل العائد.
وراضي هنا كما في فيلمه السابق وفيلمه التالي يعتمد علي المنهج نفسه في المقارنة والقطع بين جبهتي الصراع الداخلي والخارجي، بينما يركز على لحظات اكتشاف النفس والذات بحثا عن التحرر لتتحول سطور رواية الأديب الكبير عن فلسفة العمر اللحظة إلى دم ولحم وشخوص وأفكار تتحرك ببساطة وإقناع على الشاشة الكبيرة.
أما فيلمه الثالث في هذه المجموعة فهو (وراء الشمس) الذي ترصد أحداثه أعقاب الهزيمة العسكرية المروعة في يونيو/حزيران 1967؛ حيث يصر أحد كبار قادة الجيش على إجراء تحقيق للوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه الهزيمة، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اغتياله بمعرفة قائد السجن الحربي، وتستمر الأحداث التي ترصد عالم المعتقلات والتعذيب وكيف يمكن للقهر أن يتسبب في هزائم متتالية على مستويات عديدة، وبالتالي فهو فيلم مكمل للبحث في أجندة فساد جبهة داخلية لا تريد أن تعترف بأنها سبب رئيسي في أي هزيمة وتحديدا 67.
وراضي هنا مفعم بالتفاصيل والحوارات الساخنة داخل جدران معتمة وأجواء قهرية زنزانية تشي بنتائج محتمة مع استخدام أسلوب (كافكا) في الكتابة الكابوسية وكأنه بدوره يكشف عن أسلوب شبيه في الإخراج يبرع فيه راضي من خلال هذا الفيلم كما في فيلمَيْه الآخريْن.
والحقيقة أن قيام محمد راضي بتأسيس جماعة السينما الجديدة التي كانت تهدف لخلق تيار جديد في السينما المصرية والتي ضمت في عضويتها شباب السينما المصرية آنذاك الذين أصبحوا من أبرز صناعها فيما بعد كان له علاقة بذلك الأسلوب الذي حاول به كسر المألوف في السرد خصوصا في هذه الثلاثية، وقد قدم راضي أفلاما أخرى لها أشكال مختلفة بعد ذلك مثل أمهات في المنفى والإنس والجن والهروب من الخانكة، لكن يظل أسلوب راضي الكابوسي هو سمة السرد الأساسية التي جعلت لأفلامه مذاقا خاصا جدا.
وقد حصد راضي عشرات الجوائز وشهادات التقدير عبر مشواره الفني.