كورونا يعيد "المقريزي" إلى المكتبات
المؤرخ تقي الدين المقريزي يتميز بين مؤرخي عصره بقدرته على تبني منهج أقرب إلى تأمل الأحوال، وربط الأحداث بالأسباب.
أعادت أزمة تفشي فيروس كورونا الجديد، مجموعة من الكتب التي تعرضت لتاريخ الأوبئة إلى واجهة المكتبات العربية من جديد، وعلى رأسها كتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، للمؤرخ تقي الدين المقريزي، أحد أهم مؤرخي العصور الوسطى.
وكتب المقريزي الكتاب بعد المجاعة التي وقعت في مصر سنة 796 هجرية، وبتأثير وفاة ابنته الوحيدة بالطاعون الذي أعقب تلك المجاعة.
ويركز الكتاب على تاريخ المجاعات التي نزلت بمصر منذ أقدم العصور، وحتى عام 808 هجرية، وقت تأليف الكتاب، وصدر لأول مرة عن دار الكتب المصرية عام 1940، بتحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، والدكتور جمال الدين الشيال، ثم توالت طبعاته.
وتميز "المقريزي" بين مؤرخي عصره بقدرته على تبني منهج أقرب إلى تأمل الأحوال، وربط الأحداث بالأسباب، ربما تأثراً بأستاذه عبدالرحمن بن خلدون، الذي كان معاصراً له وتلقى العلم على يديه.
ورغم الانتقادات التي وجهها مؤرخ مثل شمس الدين السخاوي للمقريزي، متهماً إياه بعدم الدقة في تحري الوقائع، إلا أن المؤكد أن مؤلفات "المقريزي" صمدت عبر التاريخ كمصدر رئيسي لكتابة تاريخ العصور الوسطى، وأبرزها كتابه "السلوك في معرفة تاريخ الدول والملوك".
واتخذ "المقريزي" اسمه نسبة لحارة في بعلبك تُعرف بحارة المقارزة، ويُقال إن عائلته ولدت هناك، إلا أن والده ذهب إلى القاهرة وتولى فيها بعض الوظائف.
أما "المقريزي" نفسه فقد تولى شئؤون الخطابة والإمامة عدة مرات، ثم عمل مع الملك الظاهر برقوق، ودخل دمشق مع ولده الناصر سنة 810 هـ، وهناك عُرض على المقريزي منصب قضاء المدينة فرفض.
وواصل طريقه في التدريس، وكتابة التاريخ، ومن مؤلفاته أيضاً كتاب "عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط"، الذي يؤرخ لمصر منذ الفتح العربي إلى مرحلة ما قبل تأسيس الدولة الفاطمية، وكتاب "اتعاظ الحنفا بأخبار الخلفا"، حول تاريخ مصر في زمن الدولة الفاطمية.
وبين كل مؤلفاته نال كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" شهرة كبيرة، لأنه مصدر تاريخي نادر في تناول تاريخ المجاعات والأوبئة في مصر وأسبابها.
ويعكس الكتاب تأثره بنهج ابن خلدون في التركيز على الجانب الاقتصادي، وتجلى هذا التأثير كذلك في كتابه النادر في موضوعه قياساً إلى عصره، وهوكتاب "شذور العقود في ذكر النقود"، الذي عالج قيمة النقود ومعايير تقديرها.
وكان "المقريزي" جرئياً في انتقاد السلطة في عصره، حيث حمّل مسؤولية حدوث هذه المجاعات للحكام الغافلين عن مصالح العباد، والغارقين في ملذات الدنيا وعبثها (ذكر منها قرابة ستاً وعشرين مجاعة).
ووصف انتشار الوباء وتأثيره في أحوال الناس قائلاً: "إذ انتشر الوباء وفشت الأمراض، كثر الموتى حتى عجز الناس عن تكفين الأموات ودفنهم".
وكما يحدث عادة في تلك الظروف، يستغل بعض التجار الموقف، فيتلاعبون بالعملة، ويختزنون الغلال ويرفعون أسعارها فقد "عدمت الفواكة، وقفزت أسعار الفروج والبطيخ والسفرجل، وقل وجودها في الأسواق".، وقال "المقريزي": "إذا كان الحاكم حازماً، يبادر في النظر في أمر الأسعار".
ومما ذكره "المقريزي" أن الحاكم بأمر الله حين جاء إليه الأهالي طالبين منه التدخل لوقف جنون الأسعار، بعد واحدة من وقائع الغلاء، خرج إلى الناس وقال "أنا ماض إلى جامع راشدة، فأقسم بالله لئن عدت فوجدت في الطريق موضعاً يطؤه حماري مكشوفاً من الغلة، لأضربن رقبة كل من يقال لي إن عنده شيئاً منها"، ثم توجه وتأخر إلى آخر النهار، فما بقي أحد من أهل القاهرة وعنده غلة حتى حملها من بيته أو منزله وشونها في الطرقات.
وأضاف "المقريزي" أن الحاكم بأمر الله خيّرهم بين أن يبيعوا بالسعر الذي يقرره، وبين أن يمتنعوا فيختم على غلاتهم ولا يمكنهم من بيع شيء منها إلى حين دخول الغلة الجديدة، فاستجابوا لقوله، وأطاعوا أمره، وانحل السعر، وارتفع الضرر.
aXA6IDE4LjIyMi4yMC4yNTAg جزيرة ام اند امز