لا توجد علاقة مباشرة بين نسبة الشيخوخة في المجتمع ومعدلات انتشار المرض ويؤكد هذا أن اليابان لم تشهد معدلات مرتفعة في الانتشار
مع انتشار وباء الكورونا في القارة الأوروبية وتصدر إيطاليا وإسبانيا لعدد المصابين والمتوفين من جراء هذا المرض، فقد فسر بعض المحللين ازدياد العدد في هذين البلدين، وأنه يوجد بهما أعلى نسب للشيخوخة في أوروبا، أي نسبة عدد السكان الذين تزيد أعمارهم على الستين عاما. وروجت أدوات الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لهذا التفسير.
وتشير الإحصاءات الصادرة عن مكتب السكان التابع للأمم المتحدة في 2019 ومكتب المرجعيات السكانية الأمريكي في مارس 2020، إلى عدم الدقة في هذا التفسير فإذا كان يصح على حالة إيطاليا التي تحظى فعلا بأعلى نسبة للشيخوخة (22.8%)، فإنه لا ينطبق على إسبانيا التي تشغل المرتبة التاسعة عشرة أوروبيا (19.1)، ويفصل بينهما ثماني عشرة دولة أوروبية لم ينتشر فيها الوباء بنفس المعدل. والدولتان الأوروبيتان اللتان شهدتا أكبر معدلات لانتشار المرض بعد إيطاليا وإسبانيا هما فرنسا صاحبة المرتبة الثامنة، والمملكة المتحدة صاحبة المرتبة الثالثة والعشرين، من حيث نسبة الشيخوخة بين سكانهما مقارنة ببقية الدول الأوروبية.
لا توجد إذن علاقة مباشرة بين نسبة الشيخوخة في المجتمع ومعدلات انتشار المرض، ويؤكد هذه النتيجة أن اليابان التي يوجد بها أعلى نسبة للشيخوخة في العالم (28.2%) لم تشهد معدلات مرتفعة في لانتشار الوباء. في الوقت الذي انتشر فيه بمعدلات مروعة في الولايات المتحدة التي تشغل المرتبة السادسة والثلاثين عالميا) من حيث نسبة الشيخوخة (16.0%).
العبرة إذن ليست فقط بنسبة الشيخوخة في المجتمع، ولكن بعوامل أخرى كشكل النظام الصحي وانتشار وحداته في إقليم الدولة، وسرعة الاستجابة الحكومية للمخاطر المتوقعة، وتبني إجراءات وقائية احترازية، ومدى تجاوب المواطنين والتزامهم بهذه الإجراءات.
وأيا كان الأمر، فإن إثارة هذا الموضوع أعادت إلى دائرة الحوار والنقاش موضوع "شيخوخة العالم" أي ازدياد نسبة الشيخوخة بين سكان دولة. فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين، شهد سكان العالم اتجاها مطردا في ارتفاع متوسط عمر الإنسان، خاصة في الدول المتقدمة. ويرجع هذا الاتجاه إلى عدة عوامل منها: التقدم في أساليب الرعاية الصحية، وتطور نظم تنقية المياه والصرف الصحي، والالتزام بمعايير صارمة لحماية المنتجات الزراعية من الأمراض، وانتشار الوعي بين الناس بأهمية الطعام الصحي، وكذلك الوعي بأهمية ممارسة الرياضة. ونتج عن ذلك أنه لأول مرة في تاريخ العالم فإن أغلبية البشر يعيشون لأكثر من 60 عاما، ومن الأرجح أن هذا الاتجاه سوف يستمر في العقود المقبلة.
لا توجد إذن علاقة مباشرة بين نسبة الشيخوخة في المجتمع ومعدلات انتشار المرض، ويؤكد هذه النتيجة أن اليابان التي يوجد بها أعلى نسبة للشيخوخة في العالم (28.2%) لم تشهد معدلات مرتفعة في لانتشار الوباء.
وتشير الدراسات إلى النتائج الاقتصادية المترتبة على شيخوخة المجتمعات وأهمها ازدياد نسبة الإعالة وتراجع أعداد قوة العمل، إذ تشير دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي صادرة في فبراير 2020 إلى أنه بحلول 2030 سوف تنخفض قوة العمل في اليابان بعدد 8 ملايين، وأنه بحلول 2060 فإن قوة العمل في اليابان واليونان وكوريا الجنوبية ولاتفيا ولتوانيا سوف تنخفض بنسبة 35% مقارنة بالمعدل الحالي.
من المتوقع أن يترتب على هذا الاتجاه ازدياد نسبة أصحاب المعاشات عن دفاعي الضرائب، مما قد يؤدي بالدول إلى فرض مزيد من الضرائب على الدخول. ومن المتوقع أيضا أن يترتب على هذه الزيادة ارتفاع حجم الاعتمادات الحكومية الخاصة بنظم الرعاية الصحية التي سوف يكون عليها الاستجابة لمطالب أعداد متزايدة من كبار السن. فالأكبر سنا عموما هم الأكثر عرضة للأمراض وأشد احتياجا للرعاية.
وتنبه دراسة المنتدى الاقتصادي الدولي إلى أن ازدياد نسبة الشيخوخة في الدول الصناعية المتقدمة قد يدفع بالشركات العملاقة ورؤوس الأموال إلى نقل استثماراتها إلى المجتمعات الأكثر شبابا وحيوية. وإذا كانت الدول الصناعية المتقدمة تشهد هذه الظاهرة، فإن كثيرا من الدول النامية، ومنها الدول العربية، تعيش حالة سكانية مغايرة، وهي ارتفاع نسب الخصوبة وازدياد نسبة شريحة الشباب في المجتمع.
فبالرغم من سياسات تنظيم الأسرة ودعوة المواطنين إلى خفض عدد أطفالهم في عديد من الدول العربية، فما زال متوسط عمر سكان المنطقة العربية أصغر من متوسط عمر سكان العالم، ويزداد عدد السكان فيها بضعف معدل زيادة المتوسط العالمي. وعلى سبيل المثال فقد زاد عدد العرب خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2015 بحوالي 100 مليون نسمة. ومن المتوقع أن يزداد العدد بـ100 مليون أخرى في عام 2030 ليصل عددهم إلى 500 مليون نسمة. وحسب البحث الذي أعده صندوق الأمم المتحدة للسكان بعنوان "الشيخوخة في العالم العربي" في ديسمبر 2018 وتبنى نتائجه مجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب وصدر في تقرير له بعنوان "العالم العربي أمام تحديات شيخوخة السكان: أدوار الحكومات والمجتمع والأسرة"، وذلك في نفس التاريخ، فإنه من المتوقع أن يعيش الرجال والنساء العرب الذين بلغوا سن الستين مددا أطول تصل إلى متوسط سن 78 عاما للرجال و80 عاما للنساء.
ويتوقع التقرير أيضا، ازدياد نسب الشيخوخة في الدول العربية وبنسب متفاوتة من منطقة لأخرى، فترتفع في مصر ودول المشرق العربي من 9% إلى 21%، ودول المغرب العربي من 6% إلى 13% وهى جميعها من الدول متوسطة الدخل وفقا لتعريف البنك الدولي. أما الدول العربية التي تعتبرها الأمم المتحدة من الدول الأقل نموا وهى الصومال والسودان وموريتانيا واليمن وجزر القمر وجيبوتي فسوف تزداد نسبة الشيخوخة فيها من 5 إلى 7 %. ويلاحظ هنا أن التقرير لم يدرج في التحليل دول أعضاء مجلس التعاون الخليجي، بحجة أن البيانات المتاحة لديهم تشمل المواطنين والمقيمين على حد سواء.
ورصد التقرير اختلاف سلوك كبار السن العرب عن نظرائهم في الدول الصناعية المتقدمة، وسجل أن أعدادا كبيرة من الذين يتجاوزون سن الـ60 يستمرون في العمل، وأن 85% منهم لا يزالون المصدر الرئيسي لدخل أسرهم.
وفي ضوء ما تقدم يكون من المهم للغاية أن يضع الباحثون في أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن العرب التحولات السكانية في العالم ككل، وفي مجتمعاتنا العربية نصب أعينهم. فمن ناحية أولى، فإن "شبابية" التركيب السكاني الراهن في أغلب البلاد العربية يمكن أن يمثل فرصة لجذب الاستثمارات وتوطين الصناعات في بلادنا إذا نجحنا في تدريب الشباب وتمكينهم من القدرات الفنية والتقنية الضرورية لذلك, ومن ناحية ثانية فإن ارتفاع نسب الشيخوخة في البلاد العربية يفرض ضرورة تخطيط السياسات الاجتماعية والصحية بما يمكن الحكومات من توفر الاستجابة لمتطلبات هذا التطور من نظم رعاية اجتماعية وصحية. أضف إلى ذلك ضرورة التفكير في أساليب جديدة "من خارج الصندوق" حول كيفية استفادة المجتمع من هذه الأعداد المتزايدة من كبار السن الذين ما زالوا قادرين على العطاء، ومنها الاستفادة منهم في أعمال التطوع وأنشطة خدمة المجتمع والقيام بمبادرات ومشروعات خاصة.
العنصر الحاسم في الاستفادة من كبار السن هو صحتهم البدنية والعقلية، وأُنهي المقال بجملة من التقرير العالمي حول التشيخ والصحة الذى أصدرته منظمة الصحة العالمية في 2015: "إن مدى الفرص المنبثقة من طول العمر ستعتمد بشدة على عامل أساسي واحد، ألا وهو الصحة. فإذا كان الناس يمضون سنوات عمرهم الإضافية وهم بصحة جيدة فلن تختلف قدراتهم على القيام بما يحبونه اختلافا كبيرا عن قدرة من هم أصغر عمرا منهم، أما إذا طغى على هذه السنين تدهور الصحة البدنية والعقلية فستكون مقتضيات ذلك على المسنين والمجتمع ككل أكثر سلبية بكثير".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة