لا يملك المرء إلا أن يترحم على أرواح الشهداء من زهور الوطن، ويتقدم بخالص عزائه لأسرهم. فقد فقدوا حياتهم فى بيت من بيوت العبادة..
فجعت كثيرا فى أثناء سفرى بالحادث الإرهابى الذى وقع فى كنيسة القديسين بطرس وبولس المعروفة باسم البطرسية- بالعباسية، وأودى بحياة سبعة وعشرين شخصا، غالبيتهم من النساء والأطفال، بالإضافة إلى عدد من الجرحى، فضلا عن الدمار الذى حاق بمبنى الكنيسة. تذكرت هذه الكنيسة العريقة، التى يزيد عمرها على المائة عام، والتى تتولى حاليا القوات المسلحة ترميمها حتى تكون جاهزة لاستقبال المصلين ليلة عيد الميلاد، وقد كانت آخر زيارة لى لها إبان حضور صلاة الجناز على روح المرحوم الدكتور بطرس بطرس غالى الذى دفن إلى جوار جده رئيس الوزراء الأسبق الذى طالته أيضا يد التطرف- قبل أن تنشأ الكنيسة التى تحوى مدفن العائلة البطرسية.
وضع تصميم الكنيسة البطرسية المهندس الإيطالى أنطونيو لا شاك (1856-1946)، وهو لم يكن مهندسا معماريا تقليديا، بل كان ذا موهبة فذة، شاعرا، وموسيقيا، ومبدعا له بصمته المعمارية فى منشآت فخمة عديدة فى القاهرة والإسكندرية، وقد وثقت مكتبة الإسكندرية منذ سنوات فى مجلد صخم الكنيسصة البطرسية، من حيث الطراز المعماري، والتقسيم الداخلي، والمحتويات، مشفوعة بصور مهمة عن هذه الكنيسة التى تجسد مرحلة مهمة من تاريخ مصر.
الحادث الإرهابى الذى جرح أفئدة المصريين جميعا، ارتكبه شاب فى مقتبل العمر، حيث التحف بحزام ناسف، وفجر نفسه وسط المصلين الذين كانوا يحضرون قداس الأحد. يثبت هذا الحادث مجددا أن المواجهة الجادة للتطرف والإرهاب، ليست فقط أمنية، ولكن أيضا فكرية، بالتأكيد أن الشاب الذى أقدم على هذا العمل الشائن يحمل أفكارا مهلكة، وفهما منحرفا، ومشاعر شديدة السلبية، وقد اقترف هذه الجريمة بدافع من اعتقاد خاطئ.
من هنا أريد التوقف قليلا أمام شخص الشاب الذى قام بهذا العمل الانتحاري، فى الوقت الذى يسعد فيه أقرانه بمرحلتهم العمرية المفعمة بالنشاط والحيوية والتطلع نحو المستقبل، ما الدوافع، والغايات التى سعى هذا الشاب البائس إلى تحقيقها؟
فى خبرة التجنيد داخل الجماعات الإرهابية، وهى فترة إعداد ذهنى وتهيئة نفسية، يشعر الشاب الصغير بأن الجماعة التى ينتمى إليها تمنحه قوة لا يجدها فى الواقع، وتصبح الجماعة مصدر التغيير الرئيسى فى حياته، تزيف وعيه وإدراكه، لا يكتسب من الانتماء إليها أية خبرات أو مهارات، بل على العكس يكتسب غرورا شديدا، واستهانة بكل من لا ينتمى للجماعة، وبهذا فهى تقوى أسوأ أنواع الأنانية العرقية والدينية لديه، وباللغة الدارجة يعانى هذا الشخص من «غسيل الدماغ»، وتتم هذه العملية بشكل شامل، وتراكمي، وعميق مما يجعل الكثيرين من الشباب مستعدين للإقدام على الانتحار من أجل تحقيق قضية يؤمن بها، والأشد خطورة من ذلك إقدامهم على قتل كثير من الأبرياء الذين يعتبرونهم مذنبين لمجرد أنهم يخالفونهم المعتقد الديني، أو حتى لا ينتمون لنفس الجماعة إذا كانوا يحملون نفس المعتقد الديني. إن الشباب دوما ينجذب لفكرة القضية، ويعرف ذلك جيدا القائمون على تجنيد الشباب، حيث يعمدون إلى ربطهم بقضية أشمل وأعم، ويشغلونهم بتحقيق هدف وقيمة فى الحياة، فى وقت لا يجد هؤلاء الشباب هدفا فى حياتهم، أو يعتصرهم الفقر والتهميش، أو لا يتطلعون إلى أمل فى المستقبل. ومما يجعل هناك إمكانية دائمة لتجنيد الشباب فى جماعات الإرهاب أن القضية التى تقدم لهم عادة ما تكون مغلفة برداء أخلاقي، وطوباوي، تخلو من المادة، أو المصلحة المباشرة، مما يجعلها سريعة النفاذ إلى عقول وأفئدة الشباب، الذين يميلون عادة إلى المثالية فى النظرة، وتنقصهم الخبرة الحياتية.
يدفعنا كل ما سبق إلى التفكير فى سبل تجفيف منابع التجنيد للشباب، والبداية تكون بتصحيح المفاهيم، ومواجهة الأفكار الخاطئة التى تجتذبهم، وتصور لهم الواقع على غير حقيقته، وتدفعهم دفعا إلى ارتكاب جرائم تحت زعم تحقيق غايات نبيلة. هذه أحد أهم مسئوليات الخطاب الديني، ولكن أيضا ينبغى أن تنصرف برامج التعليم إلى التأكيد على أهمية العلم، والتفكير النقدي، وبث ثقافة التسامح، والاهتمام بالفنون، والمواطنة، وقبول الآخر المختلف، فضلا عن إشراك الطلاب والطالبات فى مشروعات اجتماعية واسعة وهو ما يشعرهم بأهمية الإنسان، وقيمة حياة الإنسان، وروح العمل الجماعي، وضرورة مواجهة أمراض المجتمع من تهميش، وفقر، وبطالة، الخ.
فى هذه المناسبة لا يملك المرء إلا أن يترحم على أرواح الشهداء من زهور الوطن، ويتقدم بخالص عزائه لأسرهم. فقد فقدوا حياتهم فى بيت من بيوت العبادة، لم يرتكبوا ذنبا أو جرما، ولكن شاءت الأقدار أن يشتركوا فى دفع ثمن حرب مجتمع ضد التطرف والإرهاب، كما ندعوا للمصابين بالشفاء الكامل والسريع ونأمل أن يكون هذا الحادث الأليم آخر مثل هذه الأحزان.
نقلاً عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة