بات من المؤكد أن يوم الأربعاء السادس من يناير الجاري سوف يكون يوما مشهودا في التاريخ الأمريكي.
هو اليوم الذي جرى فيه اقتحام الكونجرس من قبل متظاهرين محتجين، لكي يحتلوا "الروتاندا" التاريخية التي توجد بها تماثيل الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، ويدخل واحد منهم إلى مكتب رئيسة مجلس النواب السيدة "نانسي بيلوسي" ويضع أقدامه على مكتبها، وهو محتضن العلم الأمريكي.
الخسائر المادية كانت تحطيم عدد من النوافذ، ووفاة أربعة، أحدهم امرأة؛ أما الخسائر المعنوية والسياسية فهي تمريغ سمعة الدولة الأمريكية في الوحل، وفرض التساؤل الخطير عما إذا كانت "الديمقراطية" هي المثال السياسي المثالي الذي وصل بالفعل إلى "نهاية التاريخ"؛ أم أنه يعاني من عجز خطير في كفاءة إدارة الدولة ونقل السلطة فيها. من ناحية الشكل فإن ما جرى في هذا اليوم التاريخي لم يغير الكثير من الواقع، فقد فاز الديمقراطيون بمقعدي مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا، وبالتالي استحوذوا على مجلس الشيوخ (أصبح لديهم خمسين مقعدا، يضاف لهم صوت رئيس المجلس نائبة الرئيس كمالا هاريس مرجحا في حالة تساوي الأصوات)، وأصبح محسوما أن الرئيس المنتخب "جو بايدن" سوف يكون الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة ولا أحد غيره اعتبارا من الساعة الثانية عشرة ظهر اليوم العشرين من يناير الجاري.
ولكن من ناحية المضمون فإن الواقع السياسي الأمريكي لم يعد كما كان قائما على المنافسة الحميدة - أي التي تراعي المصلحة الأمريكية المشتركة في كل الأوقات- وإنما على صراع سياسي بين "المؤسسة" التي تجمع أغلبية الحزبين ومعهما المؤسسات السياسية والاقتصادية الفيدرالية والشركات الكبرى والجامعات العاجية وتوابعها من ناحية، وحزب جديد معارض سواء ولد خارج رحم الحزب الجمهوري أو داخله ثم خرج عليه يقوم على قاعدة جماهيرية واسعة تضم ٧٥ مليونا ممن صوتوا لصالح دونالد ترامب في الانتخابات الأخيرة.
ما يجمع بين هؤلاء جميعا هو الاعتقاد بالأفكار "الترامبية" حيث القاعدة الاجتماعية للبيض من غير الحاصلين على تعليم جامعي، والفكرية القائمة على أن أمريكا لا تحتاج العالم، وأنها مكتفية في ذاتها، وأن الآخرين من الديمقراطيين بيضا أو سودا يتلاعبون بالآخرين من خلال إعلام شقي، وتزوير الحقائق بقدر ما يزيفون الانتخابات.
وفق هذه النظرة فإن كل شيء مباح، ولا توجد غصة عندما يقوم زعيمهم بتصرفات غير قانونية، لأنه لا يخالف القانون وإنما يبادل الآخرين بالصاع صاعين. ولذا فإن هؤلاء لم يجدوا معضلة عندما تكشفت علاقات مجموعة بايدن بروسيا أثناء الانتخابات السابقة ٢٠١٦، ولا كانت هناك مشكلة مع استغلال ترامب لعلاقات أوكرانيا مع واشنطن لكي يطلب منها تقديم معلومات تكفي لإدانة "هانتر بايدن" نجل نائب الرئيس السابق، والرئيس المنتخب الآن.
وعلى غير العادة المعروفة عن الأمريكيين في الحرص الكبير على الأداء الضريبي للأمريكيين في السلطة أو خارجها، فإن دونالد ترامب لم يقدم أبدا وثيقته الضرائبية، وعندما كشفت الصحافة الأمريكية بعضا منها وجدت أنه لم يدفع شيئا.
ترامب كانت لديه قائمة من المخالفات لم يكن لها صدى يُذكر لدى كتلة التأييد الرئيسية له والتي تجسدت في ٧٥ مليونا من الأصوات كانوا على استعداد للذهاب إلى الكونجرس، لمنعه من ممارسة سلطاته في التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
في داخل الكونجرس ذاته تكشفت المجموعة "الترامبية" بين الأعضاء الجمهوريين الذين أرادوا إعاقة عملية التصديق على نتيجة الانتخابات من خلال قواعد "ديمقراطية" تفتح الباب لإفساد العملية السياسية كلها. "تيد كروز" عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس، هو الذي اقترح تشكيل لجنة تحقيق في نتائج الانتخابات تقوم بمراجعة التصويت في الولايات المختلف عليها، أي الولايات التي أدت إلى فوز بايدن، خلال فترة عشرة أيام وبعدها تعلن النتيجة.
استند كروز في ذلك إلى أن هناك تساؤلات كثيرة حول نزاهة الانتخابات، كما أن هناك سابقة تاريخية لمثل هذه الحالة منذ ١٤٥ عاما وأثناء انتخابات عام ١٨٧٦ بين "روثفورد هايز" و"صمويل تايلدن" والتي كانت فيها أيضا الشكوى بصدد حساب الأصوات، فتم تكوين لجنة من عشرة؛ نصفها من مجلس النواب والآخر من مجلس الشيوخ، مضافا لهم خمسة من المحكمة الدستورية العليا للنظر في اتهامات الإخلال بالعملية الانتخابية. هل كان كروز يعني ذلك حقا أم أنه كان يريد كسب الوقت، وإلقاء المزيد من الطين على أكتاف الديمقراطيين سواء أدى ذلك إلى التخلص من بايدن أو ترامب، ففي الحالتين فإنه سوف يكون البديل الجمهوري القادم؟!
ترامب من ناحيته استغل فترة ما بعد الانتخابات لتعبئة أنصاره للقيام بما قاموا به. بالعودة إلى نوفمبر، بعد وقت قصير من خسارته، علمنا أن دونالد ترامب كان يسأل مساعديه عما إذا كان بإمكانه العفو عن نفسه، وأنه كان مفتونًا بشكل خاص بمفهوم إصدار "عفو استباقي عن أشياء يمكن أن يُتهم الناس بها في المستقبل". على الرغم من أنها غير مسبوقة إلى حد كبير، فإن فكرة أن ترامب سيكون مهتمًا في الأساس بمنح نفسه بطاقة خروج شاملة من السجن لم تكن مفاجئة، نظرًا للتحقيقات العديدة في تعاملاته المالية، بما في ذلك الاحتيال الضريبي المحتمل، ورغبته المفترضة للبقاء خارج السجن. وعلى الرغم من أنه ليس من الواضح في هذا الوقت ما إذا كان بإمكان ترامب حقًا إصدار "عفو ذاتي"، فقد أصبح السؤال إلحاحا متزايدا قبل أيام، عندما طالب مسؤول الهيئة الانتخابية في جورجيا "بالعثور على ما يكفي من الأصوات لإلغاء الانتخابات أو تحمل العواقب". خلال محادثة استغرقت ساعة وأبلغت عنها صحيفة واشنطن بوست لأول مرة، حادث ترامب "براد رافنسبيرجر"، مستشهداً بنظريات مؤامرة مجنونة في محاولة لدفع مسؤول جورجيا إلى التوصل إلى ١١٧٨٠ صوتًا لتضعه في مرتبة متقدمة على هامش جو بايدن البالغ ١١٧٨٠ صوتًا. قال ترامب: "شعب جورجيا غاضب، وشعب البلاد غاضب"، موضحًا لرافنسبيرجر وآخرين في المكالمة أنه "لا حرج في القول، كما تعلمون، لقد أعدت الحساب". لم يجد كثيرا ما قاله المسؤول من جورجيا: "سيدي الرئيس، التحدي الذي تواجهه هو أن البيانات التي لديك خاطئة". أوضح ترامب، دون رادع من حديث، أن ما كان يطلبه -أي أن يرتكب رافنسبيرجر الاحتيال- لم يكن مشكلة كبيرة. قال "كل ما أريد القيام به هو هذا"، "أريد فقط أن أجد ١١٧٨٠ صوتًا، وهو أكثر مما لدينا. لأننا فزنا بالولاية". وأضاف لاحقًا: "إذن ماذا سنفعل هنا يا رفاق؟ أنا بحاجة فقط إلى ١١٠٠٠ صوت. يا رفاق، أحتاج إلى ١١٠٠٠ صوت. أعطني استراحة". عندما فشل التوسل والمرافعة ببساطة، لجأ ترامب بشكل غير مفاجئ إلى التهديدات وما بدا بالتأكيد أنه ابتزاز، حيث أخبر رافنسبيرجر والمستشار العام للسكرتير، رايان جيرماني، أن عدم الخروج بالأصوات سيكون "جريمة جنائية"، محذرًا الرجلين؛ "لا يمكنك ترك ذلك يحدث. هذه مخاطرة كبيرة بالنسبة لك".
ربما تكون واشنطن عند هذه اللحظة قد تغيرت ليس في بقاء ترامب، فذلك مستحيل في كل الأوقات، أو قدوم بايدن وذلك هو المؤكد، ولكن لأن العاصمة الأمريكية لم تعد كما كانت، وهو ما سوف يحتاج مراجعات طويلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة