تبدو العلاقة الأمريكيّة الإيرانية مثل مسلسل طويل المدى، تجاوَزَ أربعة عقود، من المواجهة العلنيّة تارةً، والتعاون السرّيّ تارةً أخرى.
، ثم العودة من جديد إلى التشارُع والتنازُع إلى أن يحلّ هدوءٌ مُؤَقَّت، وبات الأمرُ مرهونًا بالرئيس الأمريكيّ الجديد كلّ أربع سنوات وتَوَجُّهه.
غير أنّ المشهد الأمريكيّ الإيرانيّ هذه الأيّام يبدو مختلفًا كثيرًا عن العقود السابقة؛ إذ تبدو هناك في الأفق مُتغيِّرات جذريّة تجعل تلك العلاقة على شفا الصدام الجذريّ.
قبل بضعة أيّام، كانت الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّيّة تعلن عن رفع نسبة تخصيب اليورانيوم لأكثر من 20%، وهو ما لم تُنكِره إيران واعتبرتْه تنفيذًا لتوجُّهات نواب الشعب الإيرانيّ، ورَدًّا على الموقف الغربيّ من الاتّفاقيّة النوويّة، وبخاصّة الانسحاب الأمريكيّ منها في عهد دونالد ترامب.
ما الذي يعنيه هذا القرار على الصعيد العالميّ بشكل عامّ، وعلى مستوى العلاقات الأمريكيّة الإيرانيّة بنوع خاصٍّ؟
بدايةً، يُفهَم من التوجُّه الإيرانيّ أنّه لم يَعُدْ يعني الملالي الرأيُ العامّ العالميّ، وأنّ البرنامج النوويّ بات أداةً للضغط على الجميع لتنفيذ رغبات إيران وتلبية تطلُّعاتها، حتّى وإن أدّى الأمر إلى تهديد الأمن والسِّلْم الدوليَّيْن.
أَمَّا على صعيد الولايات المُتَّحدة، فالقرار يُعَدُّ رَفْعًا لمستوى التفاوض الممكن مع اﻹدارة اﻷمريكيّة القادمة برئاسة جوزيف بايدن.
وفي كل الأحوال، فإن النتيجة التقنيّة المُؤَكَّدة هي أنّ إيران تقترب من حيازة القنبلة النوويّة في وقتٍ أقصر، وبخاصّة في ظِلّ استخدامها أجهزة طردٍ مركزيّ جديدة وأسرع من التقليديّة السابقة التي كانت تحوزها.
يتساءل المراقبُ: علامَ تُراهِن إيران في الفترة القادمة إذا خَلَّيْنا جانبًا ما يحدث في اﻷيّام واﻷسابيع اﻷخيرة من حكم الرئيس ترامب؟
المُؤكَّد حتّى الساعة أنّ هناك في الداخل الأمريكيّ انقسامًا حول طريقة التعاطي مع إيران من الآن وحتّى تنصيب الرئيس اﻷمريكيّ الجديد، وقد بَدَا هذا الانقسامُ واضحًا وبقوّة داخل وزارة الدفاع اﻷمريكيّة مُؤَخَّرًا، فهناك صقور من الجنرالات يَتَشوَّقون لإشعال نيران الحرب مع إيران، فيما فريقٌ آخر يرى أنّ الأمر قد يتطوّر من ضربة انتقائيّة جراحيّة أمريكيّة إلى حرب شاملة قد تُمسِك بتلابيب المنطقة. والقاصي والداني يعلم أنّ طهران تريد إشعال النيران في دول كثيرة بالجوار، كما أنّها ستحاول بكلّ ما تستطيع جَرّ إسرائيل إلى المعركة المُتَوَقَّعة.
على الجانب اﻹيرانيّ، يبدو أن طهران لا تُفَضِّل الخيار العسكريّ، وهي تعلم تمام العلم أنّ أيّ نقطة دم ﻷمريكيّ تُراق في العراق أو أيّ من قواعد أمريكا في المنطقة ستفتح أبواب جهنم عليها، ولهذا تمارس لعبة الشَدّ والجذب بمكر شديد.
ولعلّ المُرجَّح هو أنّ إيران سوف تُؤجِّل المواجهة إلى ما بعد ترامب، هذا إن لم يَسْعَ ترامب نفسُه إلى إشعال المشهد قبل رحيله لأهداف تَتَّسِق وشهوات قلبه ورغبته في الانتقام من الجميع، داخليًّا وخارجيًّا.
تأجيل المواجهة يُكسِب الإيرانيّين فُسحةً من الوقت للمراهنة على الرئيس بايدن وإدارته الديمقراطيّة، وفيها أصوات عديدة تميل إلى التهدئة ومحاولة التوصُّل إلى اتفاقٍ نوويّ جديد، وإنْ بشروط أكثر صرامة مع اﻹيرانيّين. ولهذا يسارع قادةُ البرنامج النوويّ الإيرانيّ في خطواتهم ليضعوا صاحبَ البيت الأبيض أمام واقع حالي.
على أنّ جزئيّة بعينها تتبدّى أمام ناظرَيْ الإيرانيّين وتدفعهم في إطار المكايدة السياسيّة لواشنطن، وهي رهانهم على انشغال إدارة بايدن بالتوازُنات مع آسيا، ومن ثَمّ عدم الالتفات طويلاً إلى إيران وإشكاليّاتها المختلفة.. ماذا يعني ذلك؟
باختصارٍ مفيد، حين يتسلّم بايدن مقاليد الحكم في البلاد سوف يجد أمامه مَلَفّات طارئة تستوجب البَتَّ فيها، وفي المقدّمة منها العلاقاتُ مع موسكو، وبخاصّة في ضوء الحرب السيبرانيّة الأخيرة التي تعَرّضتْ لها البلادُ، وقد أفادت تقاريرُ استخباريّة أمريكيّة بأنّ قراصنة روسًا هم من قاموا بالفعل، وكان بايدن من ناحيته قد أشار إلى أنّ أمريكا لن تتوانى عن معاقبة من هَدَّد اﻷمن القوميّ اﻷمريكيّ.
الإشكال اﻷمريكيّ الروسيّ أوسع بكثير من ذلك؛ فقد عاد سباق التسلّح الجنونيّ من ناحية، فيما الدُّبّ الروسيّ الذي تَحَوَّل إلى ثعلب رشيق الخطوات بدأ يملأ الكثير جدًّا من مُرَبَّعات النفوذ اﻷمريكيّ التقليديّ حول العالم، وبنوع مُتميِّز في الشرق اﻷوسط ومن حول المياه الدافئة.
والمُؤكَّد أيضًا أنّ التوازنات اﻷمريكيّة مع آسيا تستلزم إلقاء نظرة على التنّين الصينيّ، والذي بدأ يتمَدّد حول العالم ليقضم أكبر قِطَع من الجغرافيا التي كانت يومًا ما في شراكة جوهريّة مع أمريكا، وخير دليل على ما نقول به هو العلاقات الصينيّة الأوروبيّة التي تتطَوّر يومًا تلو اﻵخر.
في هذا الاطار، يتابع الأمريكيّون بقلق بالغ التواجد الصينيّ في أوربّا، والذي وإن تأثَّر قليلاً بتفَشّي وباء كورونا، إلا أنّه حتمًا سيتجاوز المشهد. وهناك من الدول الأوروبيّة الرقيقة الحال اقتصاديًّا مثل إيطاليا كادت تسلّم زمام أمرها إلى الصين وملياراتها الباحثة عن مجالات للاستثمار، فيما الغريب هو أن تقبل دولةٌ بحجم وقوّة ألمانيا على تعميق العلاقات مع الصين، وكأنّ نبوءة أوراسيا كادت تتحقَّق.
في الوسط من هذا كلّه تُراهِن إيرانُ على أنّ واشنطن ليست لديها رفاهيةُ ردعٍ عسكريّ مُسلَّح، وأنّ أكثر ما يمكن أن تقوم به هو العقوبات الاقتصاديّة، وهذه باتت طهران تتحايل عليها بشكل أو بآخر، لا سيّما من خلال استخدام العراق كخلفيّة لوجستيّة تمارس منها كلّ عمليات التهريب.
إيران، وفي إطار رؤيتها لتوازنات أمريكا مع آسيا، عرفتْ كيف تلعب على المتناقضات وتغزل على المتباينات إن جاز التعبير، الأمر الذي تَجَلَّى في الاتّفاقيّات التي أبرمتْها مع روسيا لمدّة عشر سنوات، ومع الصين لمُدّة خمس وعشرين سنة.
السؤال الحيويّ في هذا السياق: هل سيُقَدَّر لإدارة بايدن أن تقوم برَدْع إيران وفي الوقت ذاته الحفاظ على توازناتها مع آسيا؟
تبدو واشنطن في موقف صعب يومًا تلو اﻵخر، وهذه إشكاليّتها، فيما الأهمّ بالنسبة لسكان المنطقة واﻹقليم هو النظر إلى أمنهم القوميّ وبلورة رؤى وطنيّة لا تراهن كثيرًا على اﻵخر وتحرّكاته، رؤى تُعظِّم الاعتماد على النفس، وتقوية العلاقات البينيّة بين اﻷَشِقّاء، ورسم السيناريوهات الاستشرافيّة المستقبليّة، وحتّى يضحى العربُ أمة فاعلة في التاريخ وبعيدًا عن موقع المفعول به في العبارة الدوليّة.
تحمل اﻷيّام القادمة، ولا شَكّ، تَحدِّيات جسيمة، والذين يقرؤون لا ينهزمون والعكس صحيح في أوّل اﻷمر وآخره.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة