
رحل زياد الرحباني كما يرحل أولئك الذين يشبهون موسيقاهم؛ لا موت ولا حياة، بل عبور إلى طبقة أخرى من الصوت، إلى واد تنام فيه الأرواح التي اختبرت كل شيء ولم تجد في النهاية سوى النغمة الصافية ملاذا.
لم يكن زياد مجرد موسيقي، بل جرحا مفتوحا ينزف لحنا. تسعة وستون عاما عبرها مثل نغمة تتردد، لا تعرف مستقرا، تعانق سماء بيروت وتغرق في شوارعها، تضحك بسخرية مريرة ثم تختفي في صمت يشبه الصلوات القديمة.
غادرنا من بيروت التي أحبته وأحبها، تاركا وراءه موسيقى تعرف كيف تداوي جراح المدن، وتفتح في الخراب نوافذ للرجاء. رحل، لكنه لم يأخذ معه أسئلته؛ تركها لنا، معلّقة في أفق لم يزل يفتش عن العدالة والحب.
«إيه كان فيه أمل»
جاء زياد إلى الموسيقى وفي داخله شوارع المدينة الممزقة بالحرب، القلق اليساري الذي يبحث عن عدالة غائبة، وحنين دفين لطفولة لم تكتمل. أخذ من إرث آل الرحباني صفاء اللحن وبنى عليه لغة جديدة، تمزج الجاز الغربي بروح المقامات الشرقية، لتولد موسيقى هجينة تشبه مدينته: بيروت التي تتنفس الغرب وتنبض بالشرق.
الجاز عند زياد لم يكن ترفا تقنيا؛ كان مساحة للارتجال الحر، لغة للفوضى المنظمة، ونافذة للهروب من جدران الحرب. في مقطوعاته، يتجاور صوت البيانو القلق مع دفء العود ورهافة الكمان، ليخلق نسيجا صوتيا يعكس تعقيد الهوية اللبنانية نفسها. لم يكتف زياد باستعادة الأغنية الرحبانية؛ بل أعاد تشكيلها من الداخل. جعل فيروز تغني أوجاع المدن التي أرهقها الحصار، والأحلام التي تنهار على أبواب الغربة، والفقراء الذين لم يتوقف الجوع يوما عن إذلالهم. في ألبومات مثل «كيفك إنت» و«مش كاين هيك تكون»، وصولا إلى «إيه في أمل»، صار صوتها مرآة زمن فقد براءته، لكنه لم يفقد القدرة على الغناء. موسيقاه، بمزيجها الحر، كانت مرثية لعصر يتهاوى، وصلابة أمل يرفض الموت.
«بالنسبة لبكرا مابعرف شو»
لم يقتصر تمرده على الالحان؛ فقد صنع مسرحا يليق بفوضى زمنه. منذ أن بدأ مسيرته على الخشبة عام 1973 مع «سهرية»، برزت موهبته كحدث ثقافي وضع شابا صغيرا في رأس قائمة المسرحيين في لبنان. كانت مسرحياته «نزل السرور» (1974)، «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978)، «فيلم أميركي طويل» (1980) و«شي فاشل» (1983) ظواهر مجتمعية عابرة للانقسامات، تنتشر نصوصها على أشرطة الكاسيت في كل بيروت. وفيها فجر زياد سلاحه الأوفى: السخرية.
كانت النكتة تنبثق من قلب المأساة، تحرر الجمهور من ثقل الخوف وتكشف زيف المسلمات. سخريته لم تكن للضحك فحسب؛ كانت فعل مقاومة، طريقة لخلخلة السلطة وتفكيك خطابها، ولسان حال المهمشين الذين يواجهون القهر بابتسامة ساخرة. حتى حين يتحدث عن الحب، يبقى هناك ظل للخذلان، لكن ظلا لا يفقد القدرة على الضحك. كان يقول: «أضحك لأحمي قلبي من الانكسار».
«بس الجوع كافر؟»
ثم جاءت صرخته الاكثر صفاء: «انا مش كافر… بس الجوع كافر». لم تكن الاغنية مجرد لحن، بل بيانا انسانيا في وجه عالم ينهش الفقراء. بكلماتها الحادة، فضح زياد لعبة التكفير التي يتقنها المستفيدون من مشاريع خلط الدين بالسياسة؛ اولئك الذين يلوحون بسيف الايمان ليحكموا قبضتهم على الجائعين، فيما يقتاتون على عرقهم ويصادرون احلامهم. قال بصوت يتحدى كل من جعل من الدين سلعة:
«انا مش كافر… بس الجوع كافر
انا مش كافر… بس المرض كافر
انا مش كافر… بس الفقر كافر والذل كافر».
ثم قلب التهمة على صانعيها:
«انا مش كافر… هيذا انت الكافر
انا مش كافر ما دام انت الكافر».
كانت الاغنية مقاومة صريحة لمشروع يلوح بسيف التكفير لتكميم الافواه ومصادرة التفكير. زياد، الشيوعي الهوى، لم ير في انحيازه للفقراء شعارا سياسيا باردا، بل التزاما جذريا تجاه «المعذبين في الارض». صرخ باسمهم، لا ليستعطف احدا، بل ليعيد تعريف الايمان: ليس في الطقوس، بل في الدفاع عن الانسان. حين غنى:
«انا مش كافر… بس البلد كافر
انا مقبور ببيتي ومش قادر هاجر»،
لم يكن يعترف بكفره، بل بكفر العالم الذي يشرع الظلم، ويكفر الجائع بدل ان يقتلع اسباب جوعه. في صوته صدى لملايين المقهورين الذين تلاحقهم تهم التكفير لانهم تجرأوا على السؤال: «لماذا نحاصر بالجوع باسم الله؟».
«صديقي الله».. الآن أحببت
واذا كانت «انا مش كافر» قد واجهت لعبة التكفير التي يصنعها البشر، فان كتابه «صديقي الله» يواجه فكرة اعمق: كيف تتحرر العلاقة مع الله من الخوف والوساطة؟ كتبه زياد في الحادية عشرة من عمره، لكنه يبدو خلاصة رجل عاش قرنا من الحيرة. هناك، في صفحات قليلة، نجد الجذر الروحي لكل ما جاء بعده. لم يكتب عن الله كحاكم بعيد، بل كرفيق يقاسمه الفرح واللعب والخوف. كتب:
«وقالوا لي: ان الله صديقي
فذهبت افتش عن صديقي…».
هذه الجملة وحدها تختصر فلسفته الرحباني: ان الايمان ليس طقوسا، بل علاقة حية، بحث دائم عن حضور الله في عالم يزداد غيابه. الكتاب يفيض ببراءة السؤال، تلك التي فقدناها نحن الكبار في زحمة الاجابات الجاهزة. الله عند زياد ليس فكرة مجردة، بل حضور ملموس في زهرة تتفتح، في طائر يغني على الشرفة، في ضحكة طفل تقلب موازين اليوم. وحتى حين يخاطبه، لا يفعل ذلك بخشية العابد، بل بجرأة الصديق الذي يعرف ان الحب اسمى من الخوف. كتب:
«اتحداك بالخطيئة… تتحداني بالحب».
وكان زياد يذكرنا ان العلاقة مع الله ليست صراعا بين قداسة وخطيئة، بل مغامرة حب متبادلة لا تختبر الا بالحرية. من «صديقي الله» الى «انا مش كافر»، ظلت اسئلته تصب في مجرى واحد: ان الايمان الحق ليس ما يفرضه الاخرون، بل ما تحياه الروح في مواجهة العالم.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTUg جزيرة ام اند امز