روسيا في أفريقيا بعد فاغنر.. نفوذ أكبر وإنكار أقل
"وداعا أمريكا" أغنية تعود للحقبة السوفياتية، وجدت طريقها مجددا لقناة "تليغرام" رفيعة المستوى، لتكشف جانبا من السباق في منطقة الساحل.
يوم الخميس الماضي، اتفق المسؤولون الأمريكيون وزعماء النيجر على انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من البلاد في أقرب وقت ممكن خلال الأشهر المقبلة.
جاء الإعلان بعد أسبوعين من تأكيد واشنطن على وجود قوات أمن روسية في القاعدة نفسها التي تضم قوات أمريكية، في حين نشرت قناة "تليغرام" شهيرة يديرها مسؤولون روس مقطعا من أغنية "وداعا أمريكا" التي تعود للحقبة السوفياتية.
رسالة "تليغرام" كانت بمثابة تحديث للتطورات الأخيرة في منطقة الساحل بالقارة السمراء التي تشهد انسحابا للجيوش الغربية وتزايدا للنفوذ الروسي، وفقا لما ذكرته صحيفة "الغارديان" البريطانية في تقرير لها.
وقال إيكيميسيت إيفيونغ، رئيس الأبحاث في شركة "SBM Intelligence"، وهي شركة استشارية مقرها لاغوس تغطي الشؤون الجيوسياسية: "لقد اكتسبت روسيا اليد العليا فعليًا في سباق التسلح الجيوسياسي في منطقة الساحل وفازت بحلفاء ملتزمين، وإن كانوا هشين، في المنطقة".
وأوضح أن منطقة غرب أفريقيا مقسمة الآن إلى دول ساحلية مؤيدة للغرب، وأخرى غير ساحلية أكثر ميلاً إلى روسيا.
وتحرص موسكو على توسيع نطاق نفوذها عالميا، والوصول إلى الموارد الطبيعية وإيجاد المزيد من أسواق التصدير، وتمثل أفريقيا فرصة مثالية لتحقيق هذه الأهداف، بحسب مراقبين.
وتلعب روسيا دورا مؤثرا في المنطقة عبر كيان شامل تديره وزارة الدفاع الروسية يسمى "فيلق أفريقيا" الذي انضم إليه عناصر مجموعة فاغنر التي كان يرأسها يفغيني بريغوجين قبل تمرده الفاشل ثم وفاته في حادث طائرة العام الماضي.
وعلى مدار السنوات العشر التي سبقت وفاته، أقام بريغوجين علاقات مع قيادات دول مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وغيرهما، إذ نشر عناصر فاغنر للمساعدة في التصدي لحركات التمرد أو توفير الحماية الشخصية للقادة في مقابل صفقات المناجم والبنية التحتية، بالإضافة إلى النفوذ السياسي.
وكان يُنظر إلى بريغوجين باعتباره قائد "أوركسترا" مكونة من عدة أجزاء، فإلى جانب توفير الأمن، عملت عناصر فاغنر في التعدين، والتدخل في الانتخابات، وتصنيع ونشر المعلومات المضللة.
وبعد وفاة بريغوجين، تم استيعاب هيكل فاغنر وعملياته في الفيلق الأفريقي. كما زار كبار المسؤولين الروس عددا قليلا من القادة الأفارقة وطمأنوهم باستمرار الدعم.
ولفترة طويلة أنكرت روسيا علاقتها بفاغنر، وهو ما تغير بعد تمرد بريغوجين الفاشل ثم مقتله.
ويقول الدكتور جوزيف سيغل، مدير الأبحاث في المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، التابع لوزارة الخارجية الأمريكية: "كان لدى فاغنر مساحة كبيرة للالتفاف على القواعد والانخراط في أنشطة يمكن للروس إنكارها".
وأضاف: "لكن الآن أصبحت أنشطة هذه القوات جزءًا لا يتجزأ من وزارة الدفاع الروسية.. ولا يمكن التبرؤ منهم كما كان من قبل".
بينما اعتبر ألكسندر دانيليوك، الخبير في الحرب الروسية والزميل المشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، أن التغيير هو مجرد عودة إلى المخطط الروسي الأصلي، قائلا "لا يوجد فرق.. لأن بريغوجين لم يكن مالكًا لتلك العملية من قبل، إنما كانت دائما تابعة لأجهزة المخابرات الروسية ولم يكن الراحل سوى مدير في سلسلة القيادة".
وأوضح أن التغييرات تعني المزيد من السيطرة المباشرة من موسكو ومرونة أقل للمديرين المسؤولين في أفريقيا.
وأضاف أن "الفيلق الأفريقي كان مجرد جزء من مخطط كبير يسمى (فيلق إكسبيديشن)، للعمليات ليس فقط في أفريقيا، إنما في جميع بلدان الجنوب العالمي".
وبينما تسببت الانقلابات والصراعات في المستعمرات الفرنسية السابقة في تدهور العلاقات مع باريس، أعادت موسكو إحياء علاقات حقبة الحرب الباردة في أجزاء من أفريقيا.
وقال دبلوماسيون وخبراء في السياسة الخارجية، إن وجود روسيا لا يزال يأتي مصحوبًا بوعود باستقرار النظام ومكافحة انعدام الأمن، ولكن لا يحقق الكثير على مستوى النتائج.
وقال لاد سيروات، المتخصص الإقليمي في أفريقيا، إن "أحداث العنف التي تشارك فيها الجماعات المتمردة تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا في مالي وحدها منذ عام 2021، عندما بدأت فاغنر عملياتها في البلاد".
ومع دخول الروس وطرد الجيوش الغربية الأخرى وبعثات الأمم المتحدة، فإن "عدد قوات مكافحة التمرد انخفض مع تقييد عدد القوات الروسية إلى بضع مئات فقط في كل عملية انتشار، ما يجعل الأعداد أقل مما يجب للتعامل مع الصراعات المسلحة"، وفق المصدر ذاته.
لكن يرى الخبراء هذا الأمر ميزة وليس عيبًا، وقال سيغل: "هذه القوات ليست موجودة من أجل أمن المواطنين، وإنما حماية الأنظمة"، مضيفا "هذا الترتيب مرض ماليا وسياسيا للروس".
ولا يزال الوضع معقدا، مع تنافس جهات متعددة على النفوذ. وفي أبريل/نيسان الماضي، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، فاوستين آركانج تواديرا، للمرة الثانية خلال 6 أشهر في باريس.
واعتبر البعض أن اللقاء إشارة إلى تحول محتمل في التحالفات الجيوسياسية، لكن علاقات تواديرا مع موسكو لا تزال عميقة، فعناصر حراسته روس، كما أن الروسية أصبحت لغة التدريس في مدارس البلاد.