من الردع إلى الاستعداد.. كيف غيرت موسكو حسابات الأمن الأوروبي؟
فرض تصاعد النفوذ الروسي والتهديدات المرتبطة به واقعا أمنيا جديدا في أوروبا مما أعاد إلى الواجهة احتمال اندلاع حرب في القارة العجوز.
ويتفق خبراء الدفاع والأمن في أوروبا وبريطانيا الآن على أن خطر الحرب بات حقيقيًا، وأن الاستعداد الحالي غير كافٍ لمواجهة صراع محتمل مع روسيا خلال السنوات القليلة المقبلة وذلك وفقا لما ذكرته شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية.
وفي مؤتمر عُقد في لندن ونظمه المعهد الملكي للخدمات المتحدة، خلص مسؤولون عسكريون حاليون وسابقون، إلى جانب خبراء وباحثين في شؤون الأمن والدفاع، إلى أن المملكة المتحدة وحلفاءها الأوروبيين غير مستعدين لحرب واسعة النطاق.
وقالت "سي إن إن" إن هؤلاء الخبراء ليسوا دعاة حرب، بل مختصون يعتمدون على تقييمات استخباراتية متداولة تشير إلى أن روسيا تستعد لاحتمال صراع مباشر مع أوروبا وقد خلصوا إلى أن السبيل الوحيد لمنع الحرب هو إظهار جاهزية حقيقية تجعل أي مواجهة خاسرة بالنسبة لروسيا.
ولا يقتصر التحدي الآن على زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي الذي ظل متراجعا لسنوات طويلة، بل يتطلب الأمر أيضًا تحولًا جذريًا في طريقة التفكير على مستوى الحكومات والمجتمعات.
وبحسب الخبراء، لم يعد ممكنًا إبعاد شبح الحرب عن النقاش العام، وعلى الحكومات أن تصارح مواطنيها بأن مرحلة تجاهل المخاطر الأمنية قد انتهت.
ويشير محللون إلى أن روسيا تشن بالفعل ما يُعرف بـ"الحرب الهجينة" ضد الغرب، من خلال عمليات تخريب، وحملات تضليل إعلامي، والتدخل في النقاشات السياسية الداخلية.
وتستند هذه التحليلات إلى أدلة تشمل اختراقات متكررة للمجال الجوي لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، والتشويش على أنظمة الملاحة في دول البلطيق، إضافة إلى هجمات تخريبية استهدفت بنى تحتية حيوية في عدة دول أوروبية، نُسبت إلى أجهزة الاستخبارات الروسية، وهو ما تنفيه موسكو دائما.
وأثارت هذه الأنشطة قلقا أكثر وضوحا لدى الرأي العام الأوروبي خاصة مع تزايد حوادث مثل تحليق المسيرات قرب بعض المطارات مما خلق شعورا بأن حادثًا خطيرًا قد يقع في أي لحظة وان الصراع لم يعد مجرد احتمال بعيد.
وحتى الآن، لم تشن روسيا هجومًا مباشرًا على أي دولة عضو في الناتو، وهو ما أرجعه محللون جزئيًا إلى إدراك موسكو أنها لا تستطيع حاليًا هزيمة الحلف.
لكن هذا التوازن قد يتغير فقد حذّر الأمين العام للناتو مارك روته من أن روسيا قد تكون قادرة على استخدام القوة العسكرية ضد الحلف خلال خمس سنوات، بينما توقعت الاستخبارات الألمانية أن تبقي موسكو خيار الحرب مفتوحًا بحلول عام 2029.
في المقابل، صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن بلاده لا تخطط للحرب مع أوروبا، لكنها مستعدة إذا فُرض عليها ذلك.
وتشعر دول البلطيق بتهديد أكبر وسط تقديرات بأن أي هجوم محتمل قد يقع خلال 3 سنوات وتشير دراسات أكاديمية إلى أن الأعوام 2027 و2028 تتكرر كثيرًا في تحذيرات المسؤولين.
هذه المخاوف دفعت الناتو إلى إعداد خطط دفاعية خاصة بالمنطقة، لكن الخبراء يحذرون من أنها تعتمد على افتراضات وموارد غير متوافرة فعليًا.
وفي بريطانيا، تم تكليف فريق من كبار الخبراء بمراجعة استراتيجية الدفاع، وخلص إلى أن البلاد بحاجة إلى تعزيز البنية التحتية، وزيادة حجم القوات والاحتياط، وتحسين الدفاع المدني، والاستثمار في قطاعات الصحة والصناعة والاقتصاد، لضمان القدرة على التحول السريع إلى اقتصاد حرب.
ورغم التقدم، يقدر الخبراء أن بريطانيا قد تحتاج إلى 10 سنوات لتصبح جاهزة، في حين تشير التقديرات إلى أن التهديد قد يتحقق خلال 3 إلى 5 سنوات فقط.
وتعود جذور المشكلة إلى ما يعرف بـ"عائد السلام"، إذ استفادت أوروبا منذ عام 1945 من أطول فترة سلام في تاريخها الحديث، مما سمح للحكومات بتوجيه الإنفاق نحو الرفاهية الاجتماعي بدلا من الدفاع، مع الاعتماد على الولايات المتحدة كضامن أمني.
لكن هذا الواقع اهتز مع اندلاع حرب أوكرانيا وعودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للبيت الأبيض حيث طالبت إدارته الأوروبيين بتحمل مسؤولية أكبر.
استجابة لذلك، رفعت معظم دول الناتو الأوروبية إنفاقها الدفاعي، حيث باتت الغالبية تلتزم بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد أن كان عددها محدودًا قبل سنوات.
كما اتفق الحلف على رفع الهدف إلى 5% بحلول 2035، رغم تشكك كثيرين في قدرة الدول الأوروبية على تحقيقه في ظل الضغوط الاقتصادية.
ويبقى التحدي الأكبر سياسيًا واجتماعيًا، إذ يتردد القادة في إبلاغ الناخبين بإمكانية إعادة تخصيص الموارد أو زيادة مدة الخدمة العسكرية.
ورغم أن استطلاعات الرأي تظهر قلقًا واسعًا لدى الأوروبيين بشأن الأمن، فإن تقبل التضحيات يختلف من دولة لأخرى ففي شرق أوروبا، الأقرب جغرافيا من روسيا، يبدو الاستعداد الشعبي أكبر، مع اتخاذ خطوات مثل بناء الملاجئ وتحديث خطط الطوارئ.
كما قامت دول، مثل السويد وفنلندا، بتوزيع كتيبات إرشادية حول كيفية التصرف في حال الحرب، وأعادت بعض الدول نظام التجنيد أو أطلقت برامج تدريب عسكري طوعي.
ويؤكد الخبراء أن المجتمعات التي تتمتع بثقة عالية في مؤسساتها، مثل الشمال الأوروبي، تكون أكثر استعدادًا لتحمل الأعباء، حيث يترسخ مفهوم "الدفاع الشامل" القائم على مشاركة الجميع في حماية الوطن.
الأكيد أن أوروبا تقف اليوم أمام اختبار حاسم فإما أن تتحرك بسرعة لتعزيز قدراتها الدفاعية وبناء توافق مجتمعي حول المخاطر، أو أن تواجه مستقبلًا قد تجد نفسها فيه غير مستعدة لصراع يبدو أنه بات وشيكا، وفق "سي إن إن".