مؤسسة صندوق النقد الدولي عهد إليها بإدارة نظام نقدي دولي يعمل على تحقيق التعاون النقدي بين الدول وتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف.
وقع الرئيس الأمريكي يوم الخميس 1 يوليو مرسوما يقضي بفرض عقوبات جديدة على روسيا، وحسب المرسوم فإن العقوبات تشمل فرض حظر القروض لروسيا من قبل المؤسسات المالية الدولية.
ومن هنا يثور السؤال حول مصدر هذا النفوذ الأمريكي الذي يمكن من حرمان بلد عضو في مؤسسة دولية تضم في عضويتها نحو 189 عضوا من الحصول على قروض من هذه المؤسسة.والواقع أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا الرجوع إلى الظروف التي أحاطت بنشأة هذه المؤسسات.
قبل أن تنتهي الحرب العالمية الثانية من الناحية الفعلية ولكن مع تأكد هزيمة دول المحور، فكرت البلدان الكبرى في كيفية إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل كيفية الحيلولة دون نشوب الحرب من جديد.
ولأن البلدان الكبرى كانت قد شهدت حربا تجارية ضروسا فيما بينها خلال عقد الثلاثينيات فيما عرف باسم "حرب إفقار الجار" وهو ما أدى إلى تعميق ما عرف بالكساد العظيم (1929-1933) إلى الحد الذي دفع البعض إلى القول إن هذه الحرب غير المسلحة كانت من بين الأسباب التي دفعت إلى الحرب العالمية، وكانت حرب "إفقار الجار" تستند إلى تنافس الدول في تخفيض أسعار صرف عملاتها لتقوية القدرة التنافسية لسلعها في الأسواق العالمية وخفض القدرة التنافسية للبلدان المنافسة، علاوة على فرض قيود جمركية وغير جمركية على الواردات، ولذا تم التفكير في إنشاء منظمات دولية تشرف على وضع وتشغيل نظام نقدي دولي مستقر، وتحفيز وتنمية التجارة الدولية بحظر الممارسات التجارية الضارة التي أدت إلى الخراب الاقتصادي قبل الحرب العالمية الثانية.
الخلاصة إذا هي أن البلدان المتقدمة فرادى كالولايات المتحدة الأمريكية أو مجتمعة كأوروبا الموحدة يكون لديها فعلا حق "الفيتو" على كل ما لا ترضى عنه من قرارات، حيث يسمح نظام التصويت داخل الصندوق والبنك لحفنة من الدول الصناعية المتقدمة بنفوذ قوي في عملية صنع القرار داخلهما.
ولذا فخلال الأسابيع الثلاثة الأولى من يناير 1944 اجتمع ممثلو 45 دولة فيما سمي مؤتمر الأمم المتحدة النقدي والمالي في منتجع بريتون وودز بولاية نيوهامبشير الأمريكية لمناقشة موضوع إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، بالإضافة إلى موضوعات مثل معالجة عدم الاستقرار في أسعار الصرف والسياسة التجارية الحمائية.
ووصل المجتمعون في بريتون وودز إلى اتفاقية لتأسيس نظام نقدي دولي يستند إلى قابلية العملات للتحويل فيما بينها، مع تحقيق ثبات نسبي في أسعار الصرف وتشجيع التجارة الحرة، وللعمل على تحقيق هذه الأهداف أنشأت اتفاقية بريتون وودز مؤسستين هما: البنك الدولي للإنشاء والتعمير الذي يختص بعملية إعادة الإعمار في أوروبا، وقد بدأ عمله الفعلي في 25 يونيو 1946، وكان أول قرض يقدمه هو القرض الذي قدمه لفرنسا بتاريخ 9 مايو 1947 بقيمة 250 مليون دولار. ثم توسع البنك لاحقا في عملياته لتشمل أغلب العالم النامي، كما تنوعت برامجه فإلى جانب الإقراض لمشاريع البنية الأساسية وغيرها من المشروعات أصبح يعالج قضايا أخرى مثل الفقر والأمية والرعاية الصحية والتنمية البشرية عموما في العالم وبخاصة في الدول النامية.
أما المؤسسة الثانية فهي صندوق النقد الدولي التي عهد إليها بإدارة نظام نقدي دولي يعمل على تحقيق التعاون النقدي بين الدول وتحقيق الاستقرار في أسعار الصرف. وقد تم ذلك عبر موافقة الدول الأعضاء في الصندوق على نظام من أسعار الصرف الثابتة مع قليل من المرونة بالسماح بتحرك أسعار صرف عملات الدول المختلفة في علاقتها بالدولار الأمريكي بهامش لا يتجاوز معدله 1% صعودا وهبوطا (عدل الهامش لاحقا إلى 2.25%)، مع عدم السماح بتحرك سعر صرف عملة أي دولة من الدول خارج هذا الهامش إلا بعد الوصول إلى اتفاق مع الصندوق، وذلك لغرض أساسي هو معالجة ما سُمي "الاختلالات الجوهرية" في ميزان المدفوعات التي يعاني منها اقتصاد تلك الدولة.
وقد ظل هذا النظام معمولا به منذ عام 1946 حتى بداية السبعينيات، حين أخذ الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون قرارا بوقف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، لأن الضمانة الحقيقية لهذا النظام كانت قوة الاقتصاد الأمريكي الذي خرج من الحرب العالمية الثانية سليما معافى، ما مكنه من لعب دور قاطرة للاقتصاد العالمي، كما وفر الاحتياطي الضخم من الذهب لدى الولايات المتحدة الضمانة الحقيقية لاستمرار العمل بنظام سعر الصرف الثابت الذي يتيح إمكانية تحويل بعض العملات أمام بعضها الآخر وفق علاقة كل منها بالدولار الأمريكي الذي يمكن تحويله إلى ذهب في أي وقت، ومن ثم جاء قرار نيكسون ليجهز تماما على نظام سعر الصرف الثابت والتحول إلى نظام سعر الصرف المعوم المدار.
ولم يعد هناك من وسيلة أمام الصندوق لتحقيق أهدافه سوى ما يعرف بـ"المشروطية" التي يفرضها على أعضائه، وبالطبع لا تنطبق هذه المشروطية إلا على الأعضاء الذين يحتاجون إلى الدعم المالي من الصندوق لأجل تجاوز مشكلات حالة في موازين مدفوعاتهم، خاصة أن القرارات في هذا الجانب تستلزم الحصول على أغلبية 85% من جملة الأصوات في الصندوق.
تتسم مؤسستا بريتون وودز بهيكل للقوة في صنع القرار يتيح سيطرة البلدان الصناعية المتقدمة، إذ تم تحديد القوة التصويتية لكل دولة وفقا لحصتها النسبية من رأس مال كل من المؤسستين، ويحدد رأس المال على أساس عدد من المعايير المركبة مثل الناتج المحلي الإجمالي ومستوى التجارة الخارجية ومستوى الاحتياطيات الدولية.
ومع نشأة الصندوق كان الإنتاج الأمريكي يبلغ أكثر من نصف إنتاج العالم، كما كانت الدولة المتقدمة صناعيا الوحيدة القادرة على التصدير وكانت لديها احتياطيات هائلة من الذهب، لهذا لم يكن غريبا أن تسيطر الولايات المتحدة وقتها على أكثر من 30% من القوة التصويتية داخل الصندوق، ووقتها أيضا كانت القرارات المهمة بما فيها إقراض الدول يتطلب 70% من جملة الأصوات، ولذا كان لدى الولايات المتحدة عمليا حق "النقض" أو قوة الفيتو على أي قرار. ومع مرور الزمن ونمو الدول الأخرى لا سيما الصناعية مثل اليابان وألمانيا وغيرهما من البلدان تمت إعادة توزيع الحصص التصويتية.
إلا أنه برغم تعديل الحصص أكثر من مرة فما زالت لم تمس عمليا حتى الآن آلية صنع القرار داخل الصندوق، حيث ظلت الولايات المتحدة لديها حصة تبلغ نحو 16%، مع تعديل جملة التصويت المطلوبة في القرارات المهمة إلى 85%، ولذلك ظلت الولايات المتحدة تمتلك فعليا قوة "الفيتو" في القرارات المهمة لأن حصتها ما زالت تزيد على 15%. كما أن الدول الأوروبية الثلاث ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تمتلك مجتمعة أكثر من 15% من القوة التصويتية، بل إن ألمانيا وفرنسا مع بقية بلدان الاتحاد الأوروبي -بدون بريطانيا- تمتلك أكثر من الـ15% المطلوبة للتمتع بقوة "الفيتو". هذا طبعا إلى جانب التوافق بين الولايات المتحدة وأوروبا على أن يكون رئيس البنك الدولي أمريكيا، بينما يكون رئيس صندوق النقد الدولي أوروبيا.
الخلاصة إذا هي أن البلدان المتقدمة فرادى كالولايات المتحدة الأمريكية أو مجتمعة كأوروبا الموحدة يكون لديها فعلا حق "الفيتو" على كل ما لا ترضى عنه من قرارات، حيث يسمح نظام التصويت داخل الصندوق والبنك لحفنة من الدول الصناعية المتقدمة بنفوذ قوي في عملية صنع القرار داخلهما.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة