قائد "فاغنر" و"راسبوتين".. بدايات متشابهة ونهايات غامضة
ربما لم تعرف روسيا القيصرية شخصية في غموض غريغوري راسبوتين، وقد لا يكون مر على تاريخ روسيا الحديثة شخصية جدلية مثل يفغيني بريغوجين.
شخصان عاصرا أزمنة مختلفة، لكنهما يقفان على خط رفيع تتقاطع عنده حقبتان ونقاط تشابه عديدة تلخص البدايات والنهايات أيضا مع فوارق التوقيت والتفاصيل وربما الكواليس.
راسبوتين، الراهب الأرثوذكسي الروسي الذي انبعث من العدم الاجتماعي فاكتسب نفوذا وشهرة، بقدر ما طوقته الشائعات والروايات، بين تأكيد أنه كان رجلا مجنونا وبين مزاعم بأنه كان ساحرا غامضا.
"راهب" لكنه تزوج وأنجب أطفالا، ومجنون لكن نفوذه تخطى التقاليد الروسية لدرجة أنه سيطر على الإمبراطورة ألكسندرا.
روايات متضاربة ترفع منسوب الضبابية حول حياة راسبوتين وحتى نهايته، حيث لا تزال لحظاته الأخيرة غارقة في غموض لم تقشعه جميع الاحتمالات والسيناريوهات، ليظل السؤال: لماذا ذهب إلى قصر الأمير فليكس يوسوبوف في سان بطرسبرغ هناك حيث لقي حتفه؟
أما بريغوجين، فهو مجرم مدان اختبر ظلمة الزنازين وخرج منها عندما كان الاتحاد السوفياتي على حافة الانهيار، وأسس شركة ناجحة لبيع النقانق ثم تسلق السلم ليبني شبكة علاقات واسعة، قبل أن يؤسس شركة أمنية أطلق عليها اسم "فاغنر" التي ستعرف به لاحقا، خصوصا خلال حرب أوكرانيا، في العالم بأسره.
لكن خطوة غير محسوبة أقصته من قائمة المقربين من الكرملين، حيث قاد تمرده الفاشل في يونيو/حزيران الماضي، إلى استبعاده ونفيه إلى بيلاروسيا قبل أن يلقى مصرعه على متن طائرة كان يستقلها وتحطمت قرب موسكو، في 23 أغسطس/آب الجاري.
ولئن تختلف بشكل كبير تفاصيل النهايات للرجلين، لكنها تتماهى في النهاية نفسها لترسم لحظة رحيل، إما اغتيالا كما حصل للأول وإما بمصرعه في حادث تحطم طائرة غامض الأسباب، كما هو الحال بالنسبة لقائد فاغنر.
وما بين الحكايتين، تمضي تفاصيل حقبتين بدورات زمنية مختلفة ترسم تاريخ روسيا من القيصرية إلى الاتحادية.
"فاجر" محظوظ؟
ولد راسبوتين في بوكروفسكوي، المدينة الصغيرة الواقعة في مقاطعة "تيومين" الريفية بسيبيريا، لوالد فلاح بسيط، ولم ينل من التعليم إلا قليلا، لكنه امتلك منذ نعومة أظفاره خصلة حلق بها فوق أتراب قريته، وهي البصيرة النافذة والثاقبة فطريا، كما كان يتمتع بفراسة لا مثيل لها.
لاحقا، فجعه القدر فتوفيت والدته وهو في الـ12 من عمره، ثم سقط شقيقه في النهر ومات، في فاجعة ألمت بأخته أيضا التي توفيت بالطريقة نفسها.
ومن كثرة المصائب في حياته، حاول أن يقترب من حياة الرهبان لكنه لم يجد نفسه في هذا الوسط الروحاني، وقرر لاحقا أن يتزوج فتاة فقط لأنها رفضت أن تهب نفسها له.
اسمه بالروسية يعني "الفاجر"، وقد أنجب 4 أطفال وهو لم يدرك سن الثلاثين، وهذا ما جعل المؤرخين ينقسمون حول شخصيته: فهل كان قديسا وهو الذي كان يحج إلى الأماكن المقدسة، لا سيما في اليونان القريبة من روسيا جغرافيا، أم أنه شيطان لا أحد استطاع كشفه؟.
سؤال من الصعب الإجابة عنه، لكن الثابت هو أنه بحلول عام 1900، ترددت أصداء شهرة راسبوتين في أنحاء سيبيريا، ولاحقا قرر زيارة سان بطرسبرغ عاصمة روسيا القيصرية (مسقط رأس الرئيس الحالي فلاديمير بوتين وزعيم فاغنر بريغوجين).
في تلك المدينة، بدأ فصل جديد من حياته حيث اقترب من شخصيات نافذة عبر نبوءات كان من الغريب أن تصدق، وهو ما رشحه لنيل حظوة لدى أحد المسؤولين الكنسيين من ذوي النفوذ، والمقرب جدا من زوجة القيصر.
ومع أن راسبوتين لم يكن طموحا حيث لا يلهث وراء المال ولا يطمح لنفوذ سياسي، لكنه كان متسلقا اجتماعيا فقد أرخى الحبال لرغبته لتقوده للسلطة وبالتحديد للنفوذ الشخصي.
وبالفعل، بات أمين السر المقرب من الإمبراطورة ألكسندرا، بل تقول الروايات إنها غدت ألعوبة في يديه وهو ما أثار حنقا وغضبا في البلاط القيصري، وعجل بنهاية موسومة بالسم والرصاص.
وجهت لراسبوتين دعوة إلى قصر يوسوبوف، وهناك قدمت له كعكة مسمومة، لكن اللافت هو أنه رغم أنه أكل منها الكثير إلا أنه لم يمت، فقد اعتاد على أن يتناول قطرات من السم بشكل يومي توقيا لمحاولات اغتياله بهذا الشكل.
ولهذا تم الخلاص منه بإطلاق الرصاص عليه، وبعد بضعة أيام وجدت جثته طافية في نهر مويكا.
بريغوجين.. طباخ الرئيس
يفغيني بريغوجين، أمضى 9 سنوات بالسجن في الحقبة السوفياتية لارتكابه جرائم، ثم غادره عام 1990، عندما كان الاتحاد السوفياتي على حافة الانهيار، وأسس شركة ناجحة لبيع النقانق.
وعبر شركته، استطاع بناء شبكة علاقات واسعة قادته إلى شخصيات نافذة، وهذا ما جعله يرتقي السلم سريعا ليفتتح مطعما فخما أصبح من أهم مطاعم سان بطرسبرغ، بالتزامن مع صعود نجم بوتين نائب عمدة المدينة في ذلك الوقت.
وعقب وصول بوتين إلى الرئاسة عام 2000، أصبحت مجموعة بريغوجين توفر خدمات طعام للكرملين، فحظي بلقب “طباخ بوتين”، وقيل إنّه حقق المليارات بفضل عقود عامة.
وبفضل تلك الأموال، استطاع بريغوجين تأسيس مجموعة فاغنر الأمنية وكانت عبارة عن جيش خاص سرعان ما ذاع صيته خصوصا في سوريا وليبيا، لكن الصيت الأكبر حققه في أوكرانيا.
وقبل أشهر، ذهب الرجل بعيدا حين دشن بحفاوة مقر فاغنر في مبنى زجاجي بمدينة سان بطرسبرغ، شمال غربي روسيا.
صعود لافت سرعان ما بدأ بالتهاوي حين تجاوز الرجل الذي طالما حرص على الظهور بشخصية غير تقليدية ومتهورة، نقطة اللاعودة عندما قرر السيطرة على الكرملين.
حدث ذلك في يونيو/حزيران الماضي، عندما أعلن أن عناصره استولت “دون إطلاق رصاصة واحدة” على مقر الجيش الروسي في روستوف أون دون، مركز قيادة العمليات في أوكرانيا
خطوة قاتلة جاءت بعد اتهامه للجيش الروسي بقصف معسكرات مجموعته، ثم حبس العالم أنفاسه عندما زحف رجاله “المستعدون للموت” نحو موسكو، وباتوا على بعد 200 كيلومتر من العاصمة، وأسقطوا طائرات للجيش الروسي.
لكن التمرد الفاشل كلفه الكثير، حيث أسقطته موسكو من حساباتها ونفته، قبل أن يعلن خبر مصرعه على متن طائرة، ليكتب نهاية غامضة لرجل مثير للجدل في حياته ما في مماته.