الناقد السينمائي الراحل سمير فريد.. مصداقية الكلمة والحجة
إذا كان هناك من يستحق لقب "أستاذ النقد السينمائي" فهو الراحل سمير فريد عن جداره؛ فمن الصعب أن يحتل مكانه شخص آخر بعد أن رحل.
إذا كان هناك من يستحق لقب "أستاذ النقد السينمائي" فهو الراحل سمير فريد عن جداره، فمن الصعب أن يحتل مكانه شخص آخر بعد أن ترك مكانه شاغرا، هذا إن استمر النقد السينمائي نفسه في كتابتنا الصحفية، بالشكل الذي أرسى قواعده الراحل سمير فريد، ولم يندثر.
اختلف الكثيرون على كتابات سمير فريد، فمنهم من اشتبك معه ووصفه بشتى الصفات، فقد تم الهجوم عليه من كل المنطلقات في فترات حياته، وتغير نوع الهجوم مع تغير توجهاته، فهو لم يكن جامدا متحجرا، فقد كانت له آراء تستعدي عليه أهل اليسار وأخرى تستعدي عليه أهل اليمين. لكن بقي الجميع يحبه ويقدره متفقا ومختلفا.
لقد جعل سمير فريد النقد السينمائي علما وفنا يختلف عن الكتابات الصحفية الفنية وانطباعات الكره والحب لعمل فني أو لفنان، بالرغم من الهجوم عليه من قبل بعض النقاد في المرحلة التي حاز فيها مصداقية ومكانة، وأصبح كاهنا للنقد يعطي صكوك أداء لأعمال ولفنانين، ولكنه ظل راقيا في مستوى سامي وغير مبتذل، يجعل المختلف معه يثري بالاعتراض على آرائه القضية محل الاختلاف.
كان سمير فريد مثقفا في العديد من المجالات، ولكنه كان مستوعبا لتلك الثقافة وليس مكتر لها، يعيد مضغها في مقالاته بغرض لبس ثوب الحكيم وفقيه النقد الذي يجب أن تخضع لفتواه، فقد كان يملك قدرة كبيرة على إقناع القارئ بموقفه، حتى وصفه بعض معارضيه بشيطان الكلمة والحجة، القادر على إقناع القارئ بالشيء وعكسه.
ريادة سمير فريد أتت من تأثيره، وليس من كونه أول من كتب، أو الأوحد، أو كل أفعال التفضيل تلك، فقد كتب الكثير من النقاد ضد أفلام نادية الجندي وزوجها المنتج، محمد مختار، في الثمانينيات، لكن عندما كتب سمير فريد، تدخل من تدخل، ليتم إيقافه عن الكتابة، كما حكي هو في أحد البرامج التلفزيونية مع المذيعة بسنت حسن على الفضائية المصرية، وكان عندما يحل ضيفا ببرنامج نادي السينما، تتوالى التعليقات في اليوم التالي في صحيفة أخبار اليوم تحت رئاسة حير الأحبار موسي صبري بالتذمر على ما قاله أمس في نادي السينما ونعته بأنه صاحب كلام ذي توجه سياسي ملون، بالرغم من أنه لم يتطرق للسياسة مطلقا، فقد كان يُخاف من تأثيره.
عندما كنت صغيرا كان والدي الصحفي يستضيف زملاء له محرما علينا الاقتراب من مكان تجمعهم، وكانوا أسماء لامعة كنت أعرف بعضهم على صغر سني، أحمد عباس صالح، نعمان عاشور، محمد حمام، وبعضهم عرفته فيما بعد، وكان يلفت اهتمامي شاب صغير نحيف يرتدي نظارات شديدة الأناقة، كنت أتوق لأعرف من هو، وذلك لأني كطفل كنت أعتبره صغيرا، وكيف له يجلس مع الكبار، فبعقلي كنت أتصور أني من الممكن أن التحق بهم طالما معهم من هو صغير. لم أعرف أن هذا الشاب هو سمير فريد، حتى بعد أن كبرت واحترفت النقد السينمائي، إلى أن قال لي أحد أصدقاء والدي (الرسام الراحل جودة خليفة) هذا هو سمير فريد الذي كان يأتي عندكم بالمنزل، ولما ذكرته بي احتضني بالرغم من أننا كنا نعرف بعض من مدة. فلقد كان كبيرا، حتى وهو صغير السن وسط الكبار.
كان سمير فريد، مؤثرا في جيل كامل، أتذكر جريدة كان يصدرها في السبعينيات عن دار التحرير "كان اسمها السينما فيما أعتقد"، وكانت تأثيرها على جيلنا كتأثير الموجة الجديدة في فرنسا، تخيل السينما في جريدة وليس في مجلة، كتب في تلك الجريدة كل عمالقة النقد السينمائي في ذلك الوقت، أمير العمري، ومحمد كامل القليوبي، وأحمد رأفت بهجت، وأحمد الحصري، وماجدة موريس، سامي السلاموني، كنا نختطفها من بعضنا البعض حتى تمحى طباعتها الرديئة، حتى سارعت السلطات لغلقها.
وعندما دخلت الجامعة في كلية الهندسة جامعة حلوان، كنت أقضي الوقت في مكتبة حلوان أكثر من قضائه في قاعة المحاضرات، فلم أكن أحب ما أدرس، إلى أن وقعت على كتاب (العالم من عين الكاميرا)، أول كتاب ألفه سمير فريد في 1968، لتضاء شعلة جذوتها داخلي، لم تنطفئ حتى اليوم، لقد أصابني الكتاب بلعنتها، إنها السينما. فقررت ترك الهندسة والالتحاق بمعهد السينما، ولكن والدي أقنعني بدراسة الاقتصاد، ولم يفارقني الحلم بعد ذلك، إلى أن درست السينما في فرنسا، لقد كان سمير فريد مؤثرا في وفي جيل كامل.
وحسم سمير فريد الجدل حول موقفه من التطبيع، عبر مقاله الشهير في المصري اليوم "رفض التطبيع الثقافي مع إسرائيل موقف تاريخي يجب حمايته من الفاشيين".
فقد كان وطنيا وظل حتى وفاته، وأتذكر حين كنت سكرتيرا لجمعية نقاد السينما المصريين، أن رئيس الجمعية الدولية للصحافة السينمائية، كلاوس إيدر، أرسل إليَّ "يتوسل" تقريبا من الجمعية المصرية في أن يذهب سمير فريد لمهرجان حيفا بإسرائيل، وعندما قابلته، وكان في عزاء الناقد الراحل حسين بيومي، سألته هل ستذهب؟ فنظر إلي شذرا، قائلا: "إنت مش صحفي؟"، قلت له: نعم، قال لي: "تقدر تروح؟"، "قلت له: لا"، فاكتفى بالنظر إلي. فقد التزم بالإجماع النقابي على رفض التطبيع مع إسرائيل. مات الأستاذ الذي اختلفنا معه، ولكن الاختلاف مع سمير فريد لم يجعلنا يوما ننكر فضله علينا كجيل وعلى النقد السينمائي كمهنة لاقت الاحترام بفضله.
أحب سمير فريد السينما والفن والثقافة، وكره كل من يعاديها، لذا فهو كره الفاشية بكل أنواعها، وعلى رأسها الفاشية الدينية، فكان يرفض الحديث عن السينما الإيرانية بالرغم من فنيتها العالية، لأنه كان يعتبرها سينما مقموعة واقعة تحت استبداد عقائدي لنظام فاشي.
وداعا سمير فريد، تركتنا وتركت النقد في أصعب فتراته، ومن الواضح أن السينما معشوقتك لم يعد أحد يهتم بمشاكلها بقدر اهتمامهم بمهرجاناتها والحفلات المقامة على شرفها.
aXA6IDUyLjE1LjcyLjIyOSA= جزيرة ام اند امز