كالكثير من الشعارات التي تُرفع ولا يجري التفكير فيها بإمعان.
يردد المسؤولون الفلسطينيون ما أصبح الآن شعاراً يقول: لا انتخابات من دون القدس.
لقد كان الأولى بهم أن يقولوا: لا قدس من دون انتخابات.
الافتراض السائد هو أن إسرائيل لا تريد أن تسمح للمقدسيين بأن يشاركوا في العملية الديمقراطية لانتخاب مجلس تشريعي فلسطيني جديد. وإذا ما تم الإذعان لضغوط إسرائيل بحيث تستسلم السلطة الفلسطينية وتلغي الانتخابات، كما حصل فعلاً، فذلك سوف يعني شيئين اثنين على الأقل: الأول، هو أنه لن تُجرى انتخابات فلسطينية في أي وقت من الأوقات. وهذا خيار من خيارات التدمير الذاتي.
والثاني هو أن القدس، بدوافع الإذعان نفسه، سوف تبقى خارج العملية الانتخابية الفلسطينية إلى أمد غير محدود.
الذين يقولون إنه يجب إجراء الانتخابات، بمعزل عما تقوله أو تفعله إسرائيل، يقدمون قراءة مختلفة تستند إلى عنصرين:
الأول، هو أن المقدسيين لن تعوزهم القدرة على حماية صناديق الاقتراع، بما في ذلك وضعها في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وغيرهما من الأماكن التي يحميها المواطنون.
والثاني، هو أن أي أعمال قمعية تمارسها إسرائيل سوف تنقلب وبالاً سياسياً عليها، وتكشف عن اضطهاد غير مبرر، في واحد من أقدس المعايير الديمقراطية، وفي واحد من أهم حقوق المواطنين.
هل كان يمكن لإسرائيل أن تخوض مواجهات دامية لكي تمنع المقدسيين من أن يمارسوا حقاً طبيعياً من حقوقهم؟
ما من عاقل، إلا ويجوز له الشك في ذلك. في النهاية، إسرائيل ليست في موقف دولي حسن حيال ما يتعلق بالانتهاكات التي يتعرض لها الفلسطينيون. الإدارة الأمريكية الجديدة ليست في مستوى الصفح والتسامح نفسه الذي كانت عليه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية توجه المزيد من الانتقادات لما تصفه منظمة "هيومن رايتس ووتش" الآن بأنه سياسات "فصل عنصري" منهجية ضد الفلسطينيين.
وبينما لم تنجح إسرائيل في إملاء قرارها بضم القدس الشرقية على أحد أكثر من دونالد ترامب نفسه، فإن أي مواجهة في القدس الشرقية بين القوات الإسرائيلية والفلسطينيين ستكون كارثة "علاقات عامة" على الأقل. هذا إن لم توفر المزيد من الدوافع لكي تضيف ضغوطاً جديدة من أجل استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وصولاً إلى حل دائم. وهو حل لا بد أن ينتهي إلى الإقرار بأن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية، سواء أكان ذلك بوضع خاص، أو بتسوية مشتركة من نوع ما.
هذا يعني، على الأقل، أن الذين يبنون سياساتهم على إدامة الوضع القائم، أملاً في تحويله إلى أمر واقع، سوف يجدون أنفسهم أمام وضع لا دوام فيه.
لهذا السبب، فإن وقف الانتخابات الفلسطينية، يضحي بالقدس، ولا يدافع عنها. وهو قرار يعبر عن رضوخ مخزٍ لسياسات "الأمر الواقع"، ويميل إلى إدامتها وقبولها على نحو غير محدود.
القول "لا انتخابات من دون القدس"، يغطي الجانب الآخر المعروف، وهو أن الخائفين من نتائج الانتخابات لا يريدون مواجهة الحقيقة. وهم يحوّلون الصعوبات إلى ذرائع من أجل التهرب من استحقاق أخلاقي وسياسي ملزم.
هذا النمط من المسؤولين، لا يمكنه أن يحمي القدس ولا أن يسترد شبراً منها. لأن الذين يخافون من إرادة شعبهم، لن يكونوا على مستوى الشجاعة المطلوب مع إسرائيل.
الفشل في إقامة دولة مؤسسات، تحترم إرادة الناس، هو بحد ذاته واحد من الأسباب التي توفر لإسرائيل فرص المماطلة في تلبية استحقاقات السلام. إذ دائماً ما يُطرح السؤال في إسرائيل: دولة فلسطينية من أي نوع تلك التي يجدر أن تُقدم لها التنازلات؟
ومن المؤسف القول إن الذين يوفرون لإسرائيل الحق بطرح هذا السؤال، لا يدركون أنهم هم العلة، وأنهم جزء من المشكلة، وليس بوسعهم أن يكونوا جزءاً من الحل.
وهذا وضع إذا كان يخدم سياسات فرض الأمر الواقع، فإنه يشكل تهديداً مباشراً لمستقبل القدس.
وجود دولة مؤسسات تحترم حقوق شعبها وتضمن حرياته وتصون قيم القانون، ولا تتأخر عن تأدية التزاماتها السياسية والأخلاقية حيال الناخبين، هو وحده الذي يمكنه أن يقدم النموذج الذي يؤهل لاستعادة القدس. أما النموذج الذي يتهرب من تلك الالتزامات فإنه لا يوفر المبررات للطرف الآخر لتكريس الضم.
يقولون: "لا انتخابات من دون القدس"، وواقع حالهم يقول: لا قدس ولا انتخابات، ولا هم يحزنون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة