عند الاختيار بين البدائل يجب أن نسأل أنفسنا ليس فقط كيفية التغلب على التهديد المباشر ولكن أيضا أي نوع من العالم سنعيش.
لا يوجد على مدى ساعات الزمن على الشبكات الإذاعية والتلفزيونية، فضلاً عن صفحات الصحف، سوى الحديث عن "الجائحة" أو "كوفيد ١٩" أو فيروس كورونا اللعين. منظمة الصحة العالمية، والمواقع الإلكترونية المختلفة، باتت لديها مقياس عن المصابين بالعدوى، ومن عافاه الله بالشفاء، ومن ذهب إلى الرفيق الأعلى. الإحصائيات تبدأ بالكون كله ثم تنزل إلى مستوى الدول، ومنه إلى الولايات والمحافظات، ومع كل ذلك مدى التقدم في إنتاج لقاح للوقاية، أو علاج للشفاء.
ومع هذا وذاك نوبات للتفاؤل والتشاؤم. الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قال إن الأمور في أمريكا سوف تعود إلى ما كانت عليه قبل عيد الفصح في ١٢ أبريل المقبل، وبعدها فإن الاقتصاد الأمريكي سوف ينطلق كالصاروخ. في المقابل فإن منظمة الصحة العالمية حذرت من الأدوية التي لم تُجرَ تجارب كافية عليها؛ ولا يزال الطريق طويلاً. قرار الحكومة اليابانية بتأجيل دورة الألعاب الأولمبية حتى شهر يوليو ٢٠٢١ ربما يكون متوازناً، ولكنه ليس مؤكداً بالتأكيد.
لا يمكن للفيروس في الصين والفيروس في الولايات المتحدة تبادل النصائح حول كيفية إصابة البشر؛ ولكن يمكن للصين أن تعلم الولايات المتحدة العديد من الدروس وما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلانو في الصباح الباكر قد ينقذ الأرواح في طهران في المساء.
والحقيقة أن التأرجح ما بين التفاؤل والتشاؤم، هو في العادة يعطي الشهادة أننا لا نعرف، وعندما يكون الحال كذلك يكون اللجوء لمن يعتقد أنهم من أصحاب الحكمة في الأمر ابتداء من أهل الطب والمعامل الطبية والخبرة بالأوبئة والجائحات، كما جرى اللجوء إلى التجارب التاريخية للطاعون ومنه حتى "الإيبولا" وأنواع من إنفلونزا الطيور والخنازير وحتى جنون البقر. الجديد في الأزمة الراهنة كان اللجوء إلى الفلاسفة، وفيلسوف واحد بعينه ذاع صيته خلال السنوات الأخيرة في الشبكات التلفزيونية والإلكترونية وقنوات "اليوتوب" المتعددة: يوفال نوح هراري أستاذ فلسفة التاريخ في الجامعة العبرية بالقدس.
الرجل، بغض النظر عن جنسيته الإسرائيلية، ذاع صيته خلال السنوات الأخيرة عندما قدم ثلاثة كتب كانت الأكثر مبيعاً خلال السنوات الماضية كان أولها "الجنس البشري أو Sapiens"، "تاريخ مختصر للنوع الإنساني"؛ وثانيها "الإنسان الإله أو Homo Deus" "مختصر تاريخ الغد"؛ وثالثها "٢١ درساً للقرن ٢١". الكتب الثلاثة ذاع صيتها إلى الدرجة أن صاحبها بات متحدثاً رئيسياً في المنتديات الكبرى في العالم مثل "دافوس" طارحاً منهج "داروينيا" لفهم التطور الإنساني، يقوم على "التطور" و"الاختيار الطبيعي" للأصلح والمفيد.
ومن عجب أنه بدأ السلسلة بالحديث عن الماضي، والإنسان الذي خرج من عباءة الترقي في المملكة الحيوانية حتى جاء الإنسان الذي وقف على قدميه، ومنها إلى قطف الثمر، ومن بعده الرعي حتى عاش ثلاث ثورات كبرى: الزراعية، والصناعية، والمفهومية العلمية التي يعيشها الإنسان المعاصر. بعدها انتقل "هراري" إلى المستقبل متوقعاً أن يتخلص الإنسان من الأزمات الثلاث الكبرى التي واجهت تاريخه الذي مضى؛ وهي: المجاعة، والطاعون أو المرض، والحرب.
الإنسان القادم في المستقبل غير البعيد سوف يتغلب على المجاعة وقادر على تحقيق نوع من "الخلود" نتيجة التطورات الطبية، والقدرة على إحلال الأعضاء والتطعيم ضد الأمراض؛ أما الحرب التي كانت سلوكاً إنسانياً في جميع العصور سوف تظهر عبثيتها وعدم فائدتها. وبعد تغطية الرجل للماضي والمستقبل فإنه يعود إلى الحاضر لكي يحاول أن يحل مشاكل البشرية المعاصرة مثل الهجرة والإرهاب والتعصب الديني والتعامل مع قضايا الابتكار والإبداع.
وباختصار ما كان يميز الجنس البشري في السابق. وللإجابة عن أسئلة هل من الممكن أن يعرف التطور البشري إمكانية الوصول إلى مستويات "بيكاسو" و"موتزارت" في الفن والموسيقى، وكانت الإجابة أن ذلك ليس ببعيد، لأن جوهر الموضوع هو التطور الذي يقود إلى "أولجاريثم أو خوارزمية" تسمح للإنسان أن يصل إلى هذا المستوى من الإبداع.
لم تكن هناك صدفة إذن أن تلجأ صحيفة "الفينانشيال تايمز" اللندنية إلى من تنبأ بنهاية "الطاعون" في وقت بدت فيه "الكورونا" زاحفة على الجنس البشري كله لا تستبعد أحداً ولا تستثني. من زاوية التطور البشري فإن الأزمة العالمية الراهنة تبدو كما لو كانت سؤالاً واجب الطرح على حركة التاريخ والتطور البشري.
وفي ٢٠ مارس الجاري، نشرت الصحيفة مقالاً للرجل بعنوان: "العالم بعد فيروس الكورونا" افتتحه بما يلي: " تواجه البشرية الآن أزمة عالمية. ربما كانت أكبر أزمة في جيلنا. من المحتمل أن تشكل القرارات التي يتخذها الناس والحكومات في الأسابيع القليلة المقبلة العالم لسنوات قادمة. لن يشكلوا فقط أنظمة الرعاية الصحية لدينا ولكن أيضاً تشكيل اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا. يجب علينا أن نتصرف بسرعة وحسم. يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العواقب طويلة المدى لأعمالنا".
عند الاختيار بين البدائل، يجب أن نسأل أنفسنا ليس فقط كيفية التغلب على التهديد المباشر، ولكن أيضاً أي نوع من العالم سنعيش بمجرد مرور العاصفة. نعم، ستمر العاصفة، ستبقى البشرية على قيد الحياة، سيظل معظمنا على قيد الحياة - لكننا سنعيش في عالم مختلف.
وإذا كان ذلك هو التوصيف لما نحن فيه فإن عملية الاختيار الطبيعي سوف تكون على الوجه التالي: "في وقت الأزمة هذا، نواجه خيارين مهمين بشكل خاص. الأول بين المراقبة الشمولية وتمكين المواطنين. والثاني هو بين العزلة القومية والتضامن العالمي. ومن أجل وقف الوباء، يجب على جميع السكان الامتثال لمبادئ توجيهية معينة. هناك طريقتان رئيسيتان لتحقيق ذلك".
إحدى الطرق هي أن تراقب الحكومة الناس، وتعاقب أولئك الذين يخالفون القواعد. اليوم، ولأول مرة في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت. المؤكد أن هذا بات ممكناً من خلال استخدام وسائل قياس "بيولوجية"، ولم تعد هناك مشكلة في أن يكون لدى جميع المواطنين سواراً على معاصمهم يقيس درجات الحرارة ودقات القلب وتكرارية الكحة؛ وكل ذلك جرى استخدامه بوسائل متنوعة خلال الأزمة الراهنة، ولكن المراقبة المركزية والعقوبات القاسية ليست الطريقة الوحيدة لجعل الناس يمتثلون للإرشادات المفيدة.
فعندما يتم إخبار الناس بالحقائق العلمية، وعندما يثق الناس بالسلطات العامة لإخبارهم بهذه الحقائق، يمكن للمواطنين أن يفعلوا الشيء الصحيح حتى دون أن يراقب الأخ الأكبر أكتافهم. "وعلى سبيل المثال، غسل يديك بالصابون. كان هذا أحد أعظم التطورات على الإطلاق في نظافة الإنسان. واليوم يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يومياً، ليس لأنهم يخافون من شرطة الصابون، ولكن لأنهم يفهمون الحقائق".
الخيار الثاني –يمضي يوفال هراري إلى القول- الذي يواجه العالم هو بين العزلة الوطنية والتضامن العالمي. إن كلاً من الوباء نفسه والأزمة الاقتصادية الناتجة عنه مشكلتان عالميتان. لا يمكن حلها بشكل فعال إلا من خلال التعاون العالمي. أولاً وقبل كل شيء، من أجل هزيمة الفيروس، نحتاج إلى مشاركة المعلومات عالمياً. هذه هي الميزة الكبرى للبشر على الفيروسات.
لا يمكن للفيروس في الصين والفيروس في الولايات المتحدة تبادل النصائح حول كيفية إصابة البشر؛ ولكن يمكن للصين أن تعلم الولايات المتحدة العديد من الدروس وما يكتشفه طبيب إيطالي في ميلانو في الصباح الباكر قد ينقذ الأرواح في طهران في المساء.
وهنا يصل هراري إلى عقدة العقد حول من يقود التعاون الدولي، ففي الأزمات العالمية السابقة -مثل الأزمة المالية لعام 2008 ووباء إيبولا 2014- تولت الولايات المتحدة دور القائد العالمي، لكن الإدارة الأمريكية الحالية تخلت عن منصب القائد. لقد أوضحت أنها تهتم بعظمة أمريكا أكثر من اهتمامها بمستقبل البشرية. وإذا لم يتم ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة من قبل دول أخرى، فلن يكون من الأصعب بكثير إيقاف الوباء الحالي فحسب، بل سيستمر إرثه في تسميم العلاقات الدولية لسنوات مقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة