شادية.. صوت مصر الدافئ.. محطات من حياة أيقونة الغناء العربي
شادية احترمت جماهيرها العريضة وأمتعتهم بتلقائيتها وعفويتها التي كانت أحد أسرار دخولها للقلوب
في عام 1994، كلفني الراحل الكبير سعد الدين وهبة بكتاب عن الفنانة شادية، وذلك في إطار تكريمها بمهرجان القاهرة السينمائي، وكنت في الوقت نفسه أعد بالفعل لدراسة بخصوص هذه الفنانة التي قررت الاعتزال في صمت دون أن تتنكر لأعمالها الفنية، وتحدث معها سعد وهبة الذي قدم لها عدة سيناريوهات أفلام سابقة مثل "مراتي مدير عام"، واحد من أنجح أفلامها وأكثرها تقدمية وإنصافاً لقضية عمل المرأة.
رحبت شادية وحدثتني بالفعل من مكتبه، وقلت لها إنه بمجرد الانتهاء سأرسل ما كتبته لها على شقتها بميدان كوبري الجامعة بالجيزة أمام حديقة الحيوان، وهو ما حدث بالفعل وأعجبها جداً وقتها، وقالت للراحل بالحرف الواحد: "دراسة ممتازة وأنا سعيدة بها"، كما وافقت شادية على حضور المهرجان، وإن كانت قد تراجعت بعدها في اللحظات الأخيرة، ربما بناءً على فتوى بأنها اعتزلت وعليها عدم الظهور ويكفي طبع الكتاب وتوزيعه بالمهرجان.
مازلت أذكر هذا الموقف والكتاب الذي مر عليه الآن ما يقرب من 23 سنة تقريباً ربما مع ظهور أخبار غير بريئة أشاعت أنها بالعناية المركزة وأنها في حالة خطيرة، وهو ما نفاه المحيطون بها من أقرب صديقاتها بالإضافة لنقيب الممثلين، بل وهو ما تأكدت منه بنفسي، والحمد الله الذي أطال لنا في عمر هذه الفنانة التي احتفظت طيلة سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بلقب "نجمة الشباك الأولى"، وقد ظلت شادية تحتفظ برصيد حب وعشق الناس لها ولفنها لسنوات طويلة بعد ذلك، وحتى بعد اعتزالها في هدوء ودون تصريحات تشجب أو تتنكر لتاريخها الفني، ولا يرجع ذلك إلى أخلاقيات شادية فحسب ولكنه يرجع أيضاً إلى وعيها بقيمة وروعة ما قدمته للساحة الفنية دون تبذل أو إسفاف.
احترمت شادية جماهيرها العريضة، أمتعتهم بتلقائيتها وعفويتها التي كانت أحد أسرار دخولها للقلوب من أوسع الأبواب، ولذلك احترموها ورفعوها على الأعناق، كما تهافت على العمل معها كبار النجوم والمخرجين، فكانت بمثابة الجواد الرابح لأي عمل تشارك فيه لدرجة أن اعتبر البعض أن تأشيرة النجاح لابد أن تأتي عبر شادية كما فعل المطرب والمخرج اللبناني محمد سلمان عندما جاء إلى مصر وكان جواز مروره للشهرة أول فيلم قدمه معها وهو "قدم الخير"، وكانت قدم الخير عليه فعلاً، وتكرر الأمر مع كارم محمود في "معلهش يا زهر" و"لسانك حصانك".
وعندما تحول الملحن منير مراد للطرب وأراد دخول السينما، انطلق فوراً ليطلب من شادية مشاركته بطولة فيلميه "أنا وحبيبي" و"نهارك سعيد"، ولم يشذ من هذه القاعدة أحد حتى عبد الحليم حافظ بكل جماهيريته في الغناء وقتها، حيث كانت بطاقة تعارفه السينمائية الأولى فيلماً مع شادية هو "لحن الوفاء"، وعندما ظهر المطرب كمال حسني ضمن تأشيرة النجاح من خلال شادية بمشاركتها فيلم "ربيع الحب" عام 1956، ووصل الأمر بنجم لامع مثل كمال الشناوي أن قدم معها أكثر من 30 فيلماً ليكونا بذلك أشهر ثنائي عرفته السينما العربية على مدار تاريخها، وهو ما تكرر بنسب أخرى بعد ذلك مع شكري سرحان وعماد حمدي وصلاح ذو الفقار ومحسن سرحان ورشدي أباظة.
كانت شادية تميمة حظ هذا الفن المتميز المترع بطلّتها الشقية وحكمتها البليغة ونظراتها المؤثرة وأدائها المتنوع والواثق لأقصى حد، حتى وهي تقدم بطولة أول وآخر مسرحية لها "ريا وسكينة"، والتي حققت نجاحاً ساحقاً، وكانت "وش السعد" على فنان مثل أحمد بدير، وقد نالت العديد من الألقاب مثل "صوت مصر" كمطربة قدمت العديد من الأغاني الوطنية المتميزة، والتي كانت يقدم بعضها في ميدان التحرير، حيث كانت "يا حبيبتي يا مصر" هي النشيد الوطني الجامع لجمهور الميدان في هذه الفترة، وربما كان بدوره تميمة حظ من نوع آخر.
وقد أطلق عليها العديد من الألقاب مثل "نجمة الشباك الأولى" في الخمسينيات، و"دلوعة السينما المصرية" في المرحلة الأولى من حياتها الفنية، كما تجاوز رصيدها السينمائي 100 فيلم، بينما تجاوز رصيدها الغنائي 700 أغنية، وكان فيلمها "المرأة المجهولة" هو أول فيلم عربي يعرض بنجاح في الاتحاد السوفيتي السابق وعواصم أوروبا الشرقية، وحقق وقتها إيرادات تزيد عن المليون جنيه، وهو بمقاييس سعر اليوم يعادل حوالي مليار جنيه مصري، كما عرض لها فيلم "شيء من الخوف" عرضاً جماهيرياً باليابان وحقق نجاحاً كبيراً، وكانت قد قدمت قبلها فيلماً يابانياً بعنوان "جريمة على ضفاف النيل" أمام النجم الياباني وقتها "يوشيرو إيشبهارا".
غنت شادية أيضاً أمام الكثير من الملوك والرؤساء، كالملك فاروق والملك حسين والملك الحسن الثاني والرؤساء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، ورغم ذلك فهي نجمة الجمهور الأولى، لتصبح حالة فريدة من الحب والتميز يحتاج لصفحات وصفحات من البحث والتحليل في سر هذه التميمة الرقيقة التي أسهمت في تكريس جزء مهم من تيار السينما الغنائية والروائية الجادة في مصر والعالم العربي، وأسهمت في تشكيل جانب كبير من حسه ووجدانه الوطني والعاطفي، قبل أن تنسحب في هدوء الكبار، لتعلن أنه حان وقت التوقف، بعد أن تركت إبداعها لسنوات طويلة ليكون ملهماً لمن بعدها.
aXA6IDMuMTQ0LjEyMi4yMCA= جزيرة ام اند امز