"سندباد مصري".. جولات في رحاب التاريخ
كتاب سندباد مصري يتناول تاريخ المصريين منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث ليس بالصبغة التاريخية التقليدية وإنما بأسلوب العرض الفني.
يستدعي اسمُ "سندباد" أطيافا من الخيال والانطلاق نحو آفاق المجهول. شخصية خيالية بامتياز، حية وخالدة، أبدعتها المخيلة العربية الفذة وجاوزت شهرتها الآفاق، وكانت سببا في إلهام خيال الكتاب والفنانين والمبدعين في كل أنحاء الأرض. من شخصية "سندباد" التراثية اتخذ الكاتب والمفكر والمثقف المصري الموسوعي حسين فوزي (1900-1988) قناعا عصريا، يسجل من خلاله مجموعة من مؤلفاته، احتلت مكانها في المكتبة العربية الحديثة، تحت اسم "السندباديات" أو "مجموعة كتب سندباد".
ينتمي حسين فوزي لجيل باهر في الثقافة المصرية؛ كوكبة رائعة ضمت توفيق الحكيم، ويحيى حقي، وعلي أدهم، وزكي نجيب محمود، ومحمد مندور، ولويس عوض.. وآخرين ممن ولدوا في بدايات القرن الفائت. ويتمثل تراثه الفكري في تلك المجموعة المهمة من الكتب كان أولها "سندباد عصري.. جولات في المحيط الهندي" (1938) وفيه صور نفسه بمثابة سندباد جديد أو عصري يصور لأبناء قومه مشاهداته الطبيعية والحضارية والتاريخية والفنية التي صادفته في أثناء رحلته العلمية على السفينة المصرية "مباحث" التي قامت برحلة استكشافية في البحر الأحمر وحتى الهند، وقد حرص حسين فوزي على أن يصور كثيرا من دقائق حياته ومشاهداته، سواء على ظهر السفينة أو في البلاد التي توقفت بها، وأشار في الكتاب إلى حرصه على أن يحدث قومه بما رآه بصره أو أدركته بصيرته.
ثم كتاب "حديث السندباد القديم" (1943) وهو يصور تاريخ المحيط الهندي كما عرفه البحريون العرب فيما بين القرنين التاسع والرابع عشر، أي في المرحلة السابقة على عصر الاكتشافات الكبرى، وقد نجح حسين فوزي في هذا الكتاب في أن يعبر عن تصوراته للتاريخ الحضاري لأمته من خلال إعادة تمثل رحلات السندباد البحري وما تضمنته قصص (ألف ليلة وليلة) وكتاب (عجائب الهند) المنسوب إلى بزُرْك بن شهريار الناخذاه الرام هرمزي.
ثم نشر حسين فوزي كتابه الثالث "سندباد إلى الغرب" (1950) الذي عبر فيه عن تقديره العميق للحضارة الأوروبية ودعوته الواضحة والملحة إلى التأسي الكامل بتلك الحضارة والاحتفاء بها في كل مناحي الحياة.
بالإضافة إلى "سندباد في سيارة"، و"سندباد في رحلة حياة"، و"سندباد مصري".. وهو أشهر كتب هذه السلسلة وأكثرها ذيوعا وانتشارا.
عن سلسلة (ذاكرة الكتابة)، الكتاب رقم 174، التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية، صدرت طبعة جديدة من كتاب "سندباد مصري.. جولات في رحاب التاريخ"؛ يتناول حياة المصريين في عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث، لا بالصبغة التاريخية التقليدية، وإنما بأسلوب العرض الفني. صور ومشاهد من الحياة المصرية المصرية على مدى العصور، كتاب في مظهره العام أدبي الصياغة والعرض، تاريخيٌّ في جوهره ومادته وفصوله وأبوابه.
ويسلط حسين فوزي الأضواء على ما أسماه صناعة الشعب المصري الأصيلة "صناعة الحضارة"، وأراد أن يعرض علينا قصة "صناع الحضارة" متكاملة الفصول، على تعاقب العصور منذ فجر التاريخ وحتى العصر الحديث، قصة بطلها الأول الشعب المصري. فالتاريخ المصري الموغل في القدم بحكم طوله وتنوع وسائل دراسته، مقطع الأوصال كأنه تاريخ أمم متعاقبة، فأراد حسين فوزي أن يعرض لجولات في رحابه، وتكون بعيدةً عن السرد التاريخي الممل والعرض الجاف.
لم يراعِ حسين فوزي التسلسل الزمني المعروف وهو يعرض لكتابة هذه المشاهد التاريخية في تاريخ مصر الطويل الممتد لأكثر من سبعة آلاف سنة في عمر الزمان وحيز المكان! اختار أن يبدأ عرضه التاريخي سنة (923هـ=1517م) وهي السنة التي دخل فيها العثمانيون مصر، وأصبحت مصر منذ ذلك التاريخ إيالة (ولاية) عثمانية تخضع للحكم التركي العثماني حتى مجيء الحملة الفرنسية على مصر عام 1798م.
ومن اللافت في "سندباد مصري" أن مؤلفه حاول كتابة هذه المشاهد على هامش التاريخ المصري، بلغة تحاكي أسلوب المؤرخين المصريين الكبار الذين عاصروا هذه الأحداث وعاينوها وعاشوا لحظات التحول تلك بكل ما فيها من مرارة وشجن.
يعرض حسين فوزي في القسم الأول من الكتاب -الذي وضع عنوانا له (الظلام)- لتاريخ مصر منذ الاحتلال العثماني عام (923هـ=1517م) وحتى دخول مصر العصر الحديث واحتكاكها بالحضارة الغربية الحديثة، مرورا بالحملة الفرنسية على مصر، واعتلاء "محمد علي باشا" سدَّة الحكم ومن تلاه من حكام وأمراء الأسرة العلوية! ويعالج حسين فوزي هذه المرحلة الزمنية الممتدة، من خلال مجموعة من الفصول، تتسم عناوينها بالبساطة وخفة الظل:
(نكتة الفرنساوية، الباشا والمصرلية، ولدي، ...)
أما القسم الثاني "الخيط الأبيض والخيط الأسود" فيتناول مجموعة من الفصول الممتعة التي تعرض لقصة الفتح الإسلامي لمصر والجوانب الإيمانية والحضارية التي صاحبته، ويعرض بأسلوبه الشائق الجذاب قصة تحول مصر إلى الإسلام، وانتشار وتغلغل اللغة العربية فيها حتى كتب لها السيادة منذ ذلك التاريخ إلى ما شاء الله..
القسم الثالث والأخير من الكتاب المعنون بـ"الضياء" يتناول خصصه فوزي للتاريخ المصري القديم؛ تاريخ الحضارة المصرية الفرعونية القديمة، التي يمتد تاريخها طويلاً، ويتضح من خلال هذا القسم -الذي يعد طويلا قياسا بالقسمين الأولين من الكتاب- عشقَه وولعَه بهذا التاريخ وهذه الحضارة التي كانت نتاج جهد وإبداع الإنسان المصري القديم صانع الحضارة، وعاشق النيل، المحب دائما للسلام، والذي يسعى في حياته كلها للحب والخير والوئام.
وينهي حسين فوزي كتابه بملحق زمني يسرد فيه "مجمل تاريخ مصر" مراعياً فيه التسلسل الزمني والتاريخي، وهو مجمل ذو فائدة للقارئ الذي يتطلع إلى ضبط قراءاته لفصول الكتاب. "سندباد مصري" كتابٌ في حب مصر، كتبه عاشقُ كبير من عشاقها الذين لا نهاية لهم، ولعشقهم!
aXA6IDE4LjIxNy4yMTguMSA=
جزيرة ام اند امز