الأرجح أن عمليات الاستفزاز ستتوقف، حيث قتل من كان يحرك ويأمر تلك القوى ويمدها بالمال والسلاح
لم يجرؤ نظام طهران منذ اعتدائه على السفارة الأمريكية في طهران في عام 1979 واحتجازه عشرات الموظفين الدبلوماسيين بداخلها، على التحرش بالولايات المتحدة أو حلفائها بذلك القدر الذي حدث خلال عام 2019، وصولا إلى ذروة ذلك التحرش التي تمثلت في اعتداء أذرع إيران في بغداد على إحدى أهم وأكبر مقراتها الدبلوماسية حول العالم في خواتيم العام المنصرم.
لا شك في أن القشة التي قصمت ظهر البعير في العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وإيران هي عملية الاعتداء على مقر سفارة واشنطن في بغداد، تلك الخطوة التي لم يكن متوقعا أن يلجأ لها نظام الملالي الذي ظل يبتز المجتمع الدولي لأربعة عقود عبر سياساته التوسعية الطامعة في مزيد من النفوذ.
الأرجح أن عمليات الاستفزاز ستتوقف؛ حيث قتل من كان يحرك ويأمر تلك القوى ويمدها بالمال والسلاح، كما أن الأرجح أن تفكر تلك القوى في إعادة إنتاج نفسها وأن تتماهى مع الشارع العراقي، طمعا في الانتقال إلى المشهد السياسي الجديد الذي يتشكل الآن
الرابع من نوفمبر من العام المنصرم كان نقطة تسارع في مسار تشديد العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة؛ حيث فرضت مزيدا من العقوبات على نظام طهران، وتحديدا على تسعة من مساعدي المرشد الأعلى علي خامنئي الذين يشغلون مناصب مهمة في الدولة، بهدف تضييق الخناق عليه داخليا ودوليا، وبعد ذلك بأربع وعشرين ساعة تظاهر أنصار النظام الإيراني أمام مقر السفارة الأمريكية السابقة في طهران في الذكرى الأربعين لعملية اقتحام مقر السفارة واحتجاز الرهائن، منددين بالعقوبات التي تم فرضها مؤخرا، وبشكل استعراضي رفعت فيه شعارات معادية للولايات المتحدة.
هذه العقوبات تم توقيعها عقب جولات من التحرش بالسفارة الأمريكية من قبل أذرع إيران في العراق، والتي تعمدت إسقاط عدة صواريخ بالقرب من مقر السفارة الأمريكية، إلا أن أكثر تلك الجولات وقاحة كانت استهداف إحدى القواعد التي تستضيف القوات الأمريكية في كركوك، مؤدية إلى مقتل موظف أمريكي وإصابة عدد من الجنود، ثم اختطاف صحفي أمريكي، الأمر الذي أثار حفيظة الأمريكيين لا سيما الجمهوريين الذين قادوا توجها بمجهودات جمهورية، انتهت باستصدار أمر رئاسي غير علني بتصفية قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الشخصية الأسطورية بالنسبة لنظام ملالي طهران والذي كان يقود قوتها الضاربة.
الأنباء التي رافقت عملية قتل سليماني ومساعده العراقي أبومهدي المهندس -الرجل الثاني في الحشد الشعبي- حملت أيضا معلومات تفيد بأن عددا من مساعديه اللبنانيين والعراقيين قتلوا معه في ذات العملية، بمجرد وصوله بطائرة من بيروت أو من سوريا، وهذا يفسر تصريحات المسؤولين الأمريكيين بأن سليماني كان يخطط لعملية استهداف عدد من الدبلوماسيين والجنود الأمريكيين، كما أنها معلومة توضح كيف كان يتحرك سليماني من طهران إلى بغداد إلى دمشق إلى بيروت، ويقود بنفسه عملية إجهاض للتوجه الشعبي لتغيير المشهد السياسي الذي يسيطر عليه نظام الملالي عبر أذرعه السياسية والعسكرية، الأمر الذي كان ينوي نظام طهران توظيفه داخليا لإجهاض ثورة الشعب الإيراني عليه، ولكن مخططاته ضربت في مقتل.
عملية "البرق الأزرق" الناجحة -التي سيوظفها الجمهوريون في مسار الانتخابات الأمريكية التي باتت على الأبواب- سبقتها مؤشرات تدل على أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران في أسوأ حالاتها وقد تتحول نحو التصعيد العسكري.
كما أن الوضع فيما يتعلق بالعلاقة بين الولايات المتحدة والقوى السياسية الكبيرة -التي تتصدر المشهد العراقي منذ وصولها إلى الحكم بعد إسقاط نظام صدام حسين بمساعدة قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة- في مرحلة لا تقل سوءا عن علاقة الولايات المتحدة بإيران، ولا يخفى على أحد شكل العلاقة ببن أحزاب السلطة التي "كانت" تسيطر على قرار العراق والتي وصلت إلى طريق مسدود مع الشارع العراقي، الذي يطالب منذ أشهر برحيلهم جميعا، ولذلك فإن مقتل أبومهدي المهندس سواء كان مخططا له أم جاء مصادفة فإنه يشكل رسالة ضمنية قوية إلى تلك القوى بأن صلاحيتها انتهت، وأن الإدارة الأمريكية اختارت الوقوف إلى جانب الشارع المطالب بالتغيير، كما أنها لن تتهاون مع كل من يفكر في استفزازها. والأرجح أن عمليات الاستفزاز ستتوقف حيث قتل من كان يحرك ويأمر تلك القوى ويمدها بالمال والسلاح، كما أن الأرجح أن تفكر تلك القوى في إعادة إنتاج نفسها، وأن تتماهى مع الشارع العراقي طمعا في الانتقال إلى المشهد السياسي الجديد الذي يتشكل الآن.
الخطوة التالية في إطار المواجهة التي وصلت ذروتها بين إيران والولايات المتحدة هي ردة فعل النظام الإيراني، الذي هدد برد انتقامي قوي على مقتل قائده، والتكهنات تدور الآن حول احتمالات وشكل الرد الإيراني، الذي هز دائرة القرار منذ لحظة إعلان مقتل سليماني.
والمؤكد أنه في حال لجأت إيران لخيار الرد فإن ذلك لن يكون من نوعية الردود المتهورة؛ لأنها تعلم جيدا أنها بذلك ستستفز كل القوى الكبرى والقوى الإقليمية وليس الولايات المتحدة وحدها، ثم إنها لا تملك كثيرا من خيارات الرد سوى الأعمال التخريبية التي اعتادت عليها، كما أن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة مارسوا جميعا أقصى درجات ضبط النفس تجاه كل أعمال التحرش التي طالت السفن التجارية وناقلات النفط وإسقاط الطائرة المسيرة الأمريكية واستهداف مصالح حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج، مثل استهداف ملحقات شركة أرامكو السعودية وغير ذلك من الأعمال الإرهابية والتخريبية في اليمن وغيرها.
ولعل الحالة الضاغطة داخليا التي يعانيها نظام طهران هذه الأيام سيدفعه للتفكير مليا في خياراته التي تتقلص يوما بعد آخر، ومن بين تلك الخيارات التصعيد وهو خيار انتحاري أو التريث، وهو كذلك خيار سيجعله ضعيفا داخليا، ومن ثم فإن اللجوء إلى بحث خيارات السلم مع المجتمع الدولي بحثا عن أمل في الاستمرار في السلطة، هو أمر يحدده الشعب الإيراني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة