جنوب السودان.. عقبات في طريق السلام
3 مسارات يحتمل أن يتخذها المشهد في جنوب السودان، وهي التسوية السلمية، أو تحقيق السلام الهش، أو الانخراط في حرب أهلية شاملة.
في 3 يوليو/تموز الجاري، أصدرت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان "يوناميس" أحدث تقاريرها عن الصراع الدامي بالدولة الوليدة التي لم تنعم بالاستقرار منذ قيامها في يوليو/تموز 2011؛ حيث كشف التقرير عن كثير من العقبات التي تعترض تنفيذ اتفاق السلام الموقع بين حكومة الجنوب وقوى المعارضة في سبتمبر/أيلول 2018، لتتسع مساحة الشكوك حول إمكانية صمود الاتفاق كأساس للتسوية الشاملة، وتزداد المخاوف من أن يلقى هذا الاتفاق ذات المصير الذى لقيته الاتفاقات السابقة التي تراوحت حظوظها بين البدايات المتعثرة والنهايات الفاشلة.
بنود اتفاق السلام
كان الصراع الجنوبي قد اندلع في ديسمبر/كانون الأول 2013 على خلفية التنافس السياسي بين أجنحة الحركة الشعبية لتحرير السودان، ليصطف المتصارعون حول تحالفين أساسيين هما الحكومة بقيادة سلفاكير ميارديت، في مواجهة المعارضة بقيادة رياك مشار.
نجحت الوساطة السودانية الأوغندية في إقناع سلفاكير ميارديت ورياك مشار بالتوقيع على اتفاق جديد لتسوية الحرب الأهلية في سبتمبر/أيلول 2018، وذلك بدعم من الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا "إيجاد" والاتحاد الأفريقي، والاتحاد الأوروبي والترويكا الدولية المعنية بالصراع.
تضمن الاتفاق وقفاً فورياً لإطلاق النار، ونزعاً لسلاح المليشيات المتحاربة، وتشكيل حكومة انتقالية، وبناء جيش وطني وشرطة وطنية، وإعادة تأهيل البنية التحتية وحقول النفط، وإفساح المجال لإيصال المساعدات الإنسانية، وتقاسم السلطة بين الفرقاء السياسيين، ببقاء سلفاكير رئيساً للبلاد، وتعيين 5 نواب للرئيس، على أن يكون مشار هو النائب الأول، وزيادة عدد وزراء الحكومة من 30 إلى 45 وزيراً، وزيادة عدد مقاعد البرلمان بمقدار 150 مقعداً، ليحصل جناح مشار على 10 حقائب وزارية، و100 مقعد برلماني، فيما تتقاسم قوى المعارضة الأخرى الحقائب الوزارية والمقاعد البرلمانية الإضافية.
حدد الاتفاق مرحلتين لتطبيق البنود المذكورة آنفاً. هي المرحلة التمهيدية السابقة على الفترة الانتقالية، ومدتها 8 أشهر، يتم خلالها إنشاء اللجان المعنية بتنفيذ الاتفاق، يليها المرحلة الانتقالية التي تمتد ثلاثة أعوام ونصف، والتي ستنفذ خلالها جميع البنود الأخرى للاتفاق.
وقد تم التوقيع على الاتفاق من جانب الأطراف الأربعة الأساسية المعنية بالصراع وهم: حكومة الجنوب بقيادة سلفاكير، ورياك مشار، ممثلاً للجناح المعارض بالحركة الشعبية، وممثلو المعتقلين السابقين، وأحزاب المعارضة السياسية.
انقسام الآراء بشأن الاتفاق
ويعالج الاتفاق إشكالية استئناف تصدير النفط وغيرها من المسائل الاقتصادية، التي لطالما وقفت كعقبة أمام تحسين الأوضاع الاقتصادية بالجنوب، وتدشين عمليات إعادة الإعمار. كما يحظى الاتفاق برعاية دولية وإقليمية تضمن إنفاذه.
وانقسمت الآراء بشأن مدى قدرة الاتفاق الجديد على تحقيق التسوية الشاملة بجنوب السودان. فأبدى بعض المحللين تفاؤلاً برعاية السودان وأوغندا للاتفاق. وهما أكثر دول الجوار تشابكاً مع الصراع، وتفهماً لأبعاده، وتأثراً بتداعياته.
في المقابل، أكدت معظم التحليلات أن الاتفاق ليس أكثر من تحرك تكتيكي يركز على أعراض الصراع ولا يعالج أسبابه الهيكلية، خاصة في ظل عدم توافق أعضاء مجلس الأمن الدولي ودول الجوار لجنوب السودان؛ بشأن فرض حظر السلاح، وغموض الموقف بشأن الجدول الزمني لانسحاب القوات الأجنبية. وفقدان الثقة بين أطراف الصراع، ودليل على ذلك الخلاف بشأن مقر إقامة مشار مستقبلاً، والاعتراض على نسب تقاسم السلطة بالاتفاق، وموافقة برلمان الجنوب على تمديد ولاية الرئيس سلفاكير حتى عام 2021، وذلك لتحجيم طموحات وتحركات مشار خلال المرحلة الانتقالية.
جهود تطبيق اتفاق السلام
تمكن أطراف اتفاق السلام من تشكيل أغلب اللجان والمفوضيات اللازمة لتنفيذ الاتفاق، خلال المرحلة التمهيدية. لكنهم لم يتجاوزوا تلك الأطر النظرية. فلم يتم وقف إطلاق النار، واستمرت الاشتباكات المسلحة والعنف الإثني بشكل متقطع. كما تكونت حركات مسلحة جديدة، أهمها: الجبهة الوطنية الديمقراطية، والحركة الوطنية لجنوب السودان، وجبهة الخلاص الوطني، والجبهة الفيدرالية الديمقراطية.
استمرت أيضاً موجات اللجوء والنزوح؛ حيث كشفت التقارير مقتل 400 ألف مواطن خلال الحرب الأهلية، ونزوج ثلث السكان حتى نهاية أبريل/نيسان 2019. كما حذرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعية من احتمال تعرض 5.3 مليون من أبناء الجنوب لخطر الموت جوعاً.
تمسك أطراف الصراع أيضاً بما لديهم من أسلحة، فلم يتعاونوا مع لجان نزع السلاح. ولم يتم إدماج قوات المتمردين ضمن القوات المسلحة الحكومية، تمهيداً لإعادة بناء الجيش الوطني. بل جرى تبادل الاتهامات بينهم بشأن تجنيد المزيد من المقاتلين. وتأجل الاتفاق حول الحدود بين الولايات وعددها، بعدما عمد سلفاكير إلى زيادة عددها من 10 ولايات إلى 32 ولاية. وهنا اقترحت الوساطة الأفريقية إنشاء آلية لترسيم حدود الولايات، تحت مسمى "المفوضية الفنية للحدود"، تشمل إجراء استفتاء للمواطنين حول العدد المناسب للولايات.
تأجل أيضاً تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، لتتأجل معها عودة رياك مشار للعاصمة الجنوبية جوبا، والذي كان من المقرر أن يتم بحلول 12 مايو/أيار 2019، وهنا اقترح سلفاكير إرجاء تشكيل الحكومة حتى أبريل/نيسان 2020، مؤكداً أن استمرار موسم المطر (مايو/أيار– نوفمبر/تشرين الثاني 2019)، يجعل من الصعب تنفيذ الترتيبات الأمنية اللازمة قبل تشكيل الحكومة، وهو ما اعترض عليه مشار.
تحديات تحقيق السلام
لا تزال هناك تحديات جمة تحول دون إنفاذ اتفاق سبتمبر/أيلول 2018. أهمها فقدان الثقة بين أطراف الاتفاق، الذين اضطروا لاستئناف المفاوضات بعد الضغوط الخارجية، وأهمها تهديد مجلس الأمن الدولي بفرض عقوبات على قادة الصراع تشمل تجميد الأرصدة، وحظر السفر، وإحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان للمحكمة الجنائية الدولية، ما لم يتم الوصول لتسوية شاملة بنهاية يوليو/تموز، كما هددت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعقوبات مماثلة، مع وقف المعونات الاقتصادية.
لذا افتقد الاتفاق للتعاون المطلوب لإنفاذه، ولم تشفع جهود بابا الفاتيكان لإقناع سلفاكير ومشار بتغليب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية. وبدا واضحاً أن كل طرف يحاول استغلال الاتفاق في شراء الوقت، تمهيداً لإعادة ترتيب أوضاعه. وهو ما يفسر رفض المقترحات التي قدمت لإنفاذ الاتفاق، ومنها عقد لقاء يجمع أطراف الصراع بشكل مباشر، وترحيل الملفات الخلافية للفترة ما قبل الانتقالية، ليتم حسمها بعد ذلك.
هناك أيضاً عقبة تتعلق بنقص التمويل؛ حيث تفتقر حكومة الجنوب للسيولة النقدية اللازمة لتطبيق بنود الاتفاق، بعد رفض الجهات الدولية تقديم الدعم المالي، رداً على التقاعس في تنفيذ الاتفاق، والمخاوف من الفساد المستشري بين قيادات الجنوب، والتي يمكن أن تسيء استخدم المساعدات المالية، لتحولها إلى حساباتها الشخصية بالخارج.
في خضم هذا الجدل، تشير المعطيات لاتجاه سلفاكير نحو تشكيل حكومة انتقالية، دون تأسيس جيش قومي موحد، بما يسمح له بالسيطرة على زمام المبادرة العسكرية، وخلق مؤسسات انتقالية ضعيفة، ليتمكن من خوض الانتخابات الرئاسية دون منافسة حقيقية، فيما ينخرط مشار في تجنيد المقاتلين، استعداداً لجولة الحسم العسكري المرتقبة.
المسارات المحتملة للصراع
يمكن الحديث عن ثلاثة مسارات يحتمل أن يتخذها هذا الصراع، وهي التسوية السلمية، وتحقيق السلام الهش، والانخراط في حرب أهلية شاملة.
أما المسار الأول (التسوية السلمية) فيعود إلى أن ظاهرة الانشقاقات السياسية بالدول الوليدة تعد من الأمور المألوفة، بسبب الافتقار لخبرة إدارة الدولة، وعدم تبلور مؤسسات الحكم والأحزاب السياسية. كما أن دول الجوار ليس من مصلحتها استمرار الصراع، خوفاً من تداعياته السلبية عليها. بالإضافة إلى كون الولايات المتحدة، وهي الداعم الأساسي لانفصال الجنوب، لن تقبل باستمرار الصراع، بسبب تأثيره على مصالحها بالمنطقة برمتها. وهو ما يصدق على الصين، التي تعد أهم الشركاء التجاريين لجنوب السودان.
وبالنسبة للمسار الثاني (تحقيق السلام الهش)، فيعود إلى توازن القوى بين الخصمين الأساسيين، وعدم القدرة على حسم الصراع عسكرياً؛ حيث يتقاسم الطرفان السيطرة على المدن الاستراتيجية وثروات البلاد، خاصة النفط الذي يقع معظمه بمناطق النوير، الأمر الذي يوفر الإمكانيات المادية لتغطية نفقات القتال إذا ما طال أمده.
أما المسار الثالث (الحرب الأهلية الشاملة)، فإنه قد يتحقق مع استمرار تباين المواقف السياسية وتعقد التسوية السلمية، بالتزامن مع تكون شبكة من التحالفات الإثنية المؤيدة لهذا الطرف أو ذاك، بما يؤدي لاتساع نطاق المواجهات الأمنية، لتغطي ربوع البلاد، فنصبح أمام حالة تشبه "حرب الكل ضد الكل".
يعزز هذا الاحتمال عزل الرئيس عمر البشير، وهو الضامن الأساسي للاتفاق. كما أن جماعة النوير التي ينتمي إليها مشار، لا تريد لسلفاكير الذي ينتمي للدينكا أن يهيمن على الحزب الحاكم، وهى أيضاً لن تنسى ضحاياها الذين سقطوا في ظل هيمنة طقوس وتقاليد قبيلة صارمة ترفض الهزيمة، ولا تقبل الحصول على تعويضات مادية عندما يتعلق الأمر بكرامتها.
وهنا، فإن قائمة الخاسرين ستضم أطرافاً عديدة أولها الشعب الجنوبي، كما سيتكبد السودان خسائر فادحة بفعل تجمد مفاوضات تسوية القضايا العالقة مع الجنوب، وتراجع إنتاجها النفطي، وتدفقات اللاجئين، واحتمالية تورط الحركة الشعبية لتحرير السودان– قطاع الشمال في الصراع.
كما ستطال الخسارة إثيوبيا وكينيا وأوغندا، بفعل انكماش حركة التجارة مع جنوب السودان، وعودة العمالة التابعة لها من الجنوب. وبالنسبة لمصر، فلن يكون بمقدورها إحراز أي تقدم في ملف التعاون المائي مع جنوب السودان، مثلما حدث من قبل عندما توقف العمل بمشروع قناة جونجلي عام 1983.
في ظل هذه المعطيات، تبدو الاحتمالات الثلاثة قائمة. لكن الاحتمال الثاني وهو وجود نوع من السلام الهش، وتقاسم السيطرة على البلاد بين المتصارعين هو الأقرب للتحقق. فالمجتمع الدولي لن يسمح بحالة الحرب الشاملة.
لكن القيادات الجنوبية في المقابل لن تتورع عن التصرف كزعماء لجماعات إثنية وليس كرجال دولة، مع ممارسة العملية السياسية باعتبارها مباراة صفرية، يحصل خلالها المنتصر على كل شيء، بينما يخسر المهزوم كل شيء، وهو ما يجعل دولة الجنوب مجرد حقيقة قانونية غير قائمة فعلياً.
** د. أيمن شبانة: نائب مدير مركز حوض النيل بجامعة القاهرة
aXA6IDMuMTQ2LjE3OC44MSA= جزيرة ام اند امز