أصبحت محافظة السويداء اليوم وكأنها مرآة دقيقة تمثل تشابك الداخل السوري مع تقاطعات الإقليم وتحولات المجتمع الدولي.
فمع تولّي أحمد الشرع رئاسة البلاد، برزت السويداء كمساحة حساسة تختبر توازنات السلطة الجديدة، ومدى نضج التوجهات الإقليمية نحو سوريا، في ظل خطاب سياسي يتجه نحو المراجعة والانفتاح.
من المعروف أن أهمية السويداء تحديدا تتركز في كونها معقلًا للطائفة الدرزية، وأنها تمثل أيضا نموذجًا مصغرًا عن التداخل بين المحلي والجيوبوليتيكي.
ومن واقع هذا المشهد المعقد، تحاول الحكومة السورية الجديدة استعادة التوازن الوطني من خلال طمأنة الداخل، وإعادة تشكيل العلاقة مع الأطراف الإقليمية والدولية.
هذا التوجه يبدو أكثر وضوحًا في محاولات "أحمد الشرع" تجاوز عبء الاعتماد على حليف سوريا السابق في طهران، الذي كبل نظام الأسد الراحل، وأغرقه في الجماعات الإرهابية كحزب الله وغيره، فبات يحاول الاقتراب من معادلات أكثر مرونة تجاه الولايات المتحدة والعلاقة مع الغرب عموما.
في المقابل، تستثمر إسرائيل المشهد السوري لتوسيع نفوذها الأمني في الجنوب. ويظهر دعمها غير المعلن لبعض الأصوات المعارضة داخل السويداء كوسيلة لتفكيك الوحدة السياسية للطائفة، وإضعاف قدرة دمشق على تشكيل موقف تفاوضي موحد.
يتبدى ذلك في الترويج لخطاب "حماية الدروز"، وتحويل بعض الدعوات المحلية للتدخل الدولي إلى أدوات شرعنة للتدخلات العسكرية.
بالأمس، اضطررت أن أكتب تعليقا على منصة «إكس»، لمن يروجون لضرورة انتصار المجموعات المسلحة التابعة لحكمت الهجري وقلت: "هناك من يؤمن بسوريا واحدة موحدة قوية متماسكة عزيزة. وهناك من يؤمن بسوريا مقسمة الى دويلات صغيرة هشة.. وهناك من يؤمن بمظلة واحدة تجتمع تحتها كل العقائد والطوائف في سوريا ويعيشون في سلام. وهناك من يريد أن تصبح كل طائفة وكل دين وكل عرق دويلة صغيرة مستقلة."
بالطبع فإن هناك أصوات درزية سورية بارزة مثل يوسف جربوع وليث البلعوس أكدت تمسّكها بوحدة سوريا، ورفضها لأي رعاية خارجية. وقد عبّر هؤلاء القادة عن رفضهم لاستخدام حقوق الطائفة كذريعة لتقسيم البلاد أو جرّها نحو مشاريع إقليمية ضيقة.
لاشك أن المساعي الخليجية، خصوصًا من قبل دولة الإمارات، تبذل جهود جبارة لدعم استقرار الحكومة السورية الجديدة، ضمن رؤية تعتبر أن استقرار سوريا يمثل شرطًا ضروريًا للخروج من الفوضى. وتلعب دبلوماسية أبوظبي الفعالة دورًا استثنائيا في تسهيل محادثات غير مباشرة بين دمشق والدول الفاعلة ذات العلاقة، مستندة إلى قناعة مفادها أن الهدوء في الجنوب السوري يُمهّد لإعادة الإعمار ويحدّ من تغوّل التدخلات الخارجية.
علينا أن نأخذ في عين الاعتبار أن استراتيجية إسرائيل لا يمكنها أن تتقاطع مع التوجه الإماراتي. والذي يمنعها بشكل عام من توسيع الهامش العسكري في الجولان، أو التلويح باجتياح عسكري نحو دمشق، فخلف أبوظبي، لا تقف القوى العالمية فقط، بل تحظى بدعم وإسناد عربي قوي ومتماسك، يجعل إسرائيل تحسب خطواتها بحذر شديد.
واشنطن من جهتها، ترى في حكومة الشرع فرصة لاختبار التغيير من الداخل السوري. لذلك تدعم إدارة ترامب، وتيار واسع في المؤسسة الأميركية، اتفاق عدم اعتداء مشروطًا مع إسرائيل، يُمكّن من التقدم في ملف العقوبات، مع الإبقاء على أدوات الضغط في الجنوب. والذي يلمح أحيانا بشكل غير مباشر إلى إمكانية استقبال سكان غزة كجزء من حزمة تفاوضية أوسع، ما يعكس محاولات أميركية لإعادة تشكيل الملف السوري ضمن ترتيبات إقليمية شاملة، ولكن هذه الفكرة، لا تلقى رواجا عربيا يصر على بقاء سكان غزة في بلادهم وانهاء الحرب هناك.
في ظل هذه المعطيات، تتجاوز أزمة السويداء بعدها المحلي. فهي تُشكّل معيارًا لقياس مدى التزام الحكومة الجديدة بسياسات الإدماج، واحترام الخصوصيات، دون السماح بانفصال المكونات أو استغلالها خارجيًا. كما تمثل اختبارًا لحسن نية الأطراف الدولية في دعم سوريا المستقرة، بدلًا من إعادة إنتاج سيناريوهات التقسيم وتفكيك الهوية الوطنية.
الشرع من جانبه يعمل على بناء سردية وطنية تستوعب الطيف السوري بكامله، ويُعيد تأطير العلاقة مع الحلفاء من منطلق السيادة، ويتقدم نحو معادلات أمنية أكثر توازنًا في الجنوب. وتُشير بعض التقارير إلى مراجعات جدية للملفات الأمنية، وانفتاح غير معلن على التفاوض غير المباشر حتى مع تل أبيب، يضمن خفض التوتر ويُمهّد لمسار إقليمي أكثر عقلانية.
في المحصلة، تبدو السويداء اليوم نموذجًا مضغوطًا لسوريا الغد: دولة تتلمّس طريقها وسط توازنات حذرة، تسعى لتثبيت الاستقرار دون التفريط بالسيادة، وتفاوض على المستقبل دون الارتهان للفوضى. وسيبقى نجاح هذه التجربة مرهونًا بقدرة دمشق على إنتاج خطاب سياسي جامع، وبمدى استعداد المجتمع الدولي لفهم الأولويات السورية بعيدًا عن مناورات القوة التقليدية.
يسألونني دائما، كيف تطالبين بإنهاء صراع الهويات والنفوذ في الجنوب السوري بينما تطالبين بانفصال الجنوب العربي عن اليمن؟ فيكون جوابي دائما أن الجنوب العربي كانت عبر التاريخ دولة مستقلة لها هويتها وتاريخها المستقل، أما الجنوب السوري فهو مكون أساسي تاريخي من الدولة السورية وقطعة لا تنفصل عنها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة