التطلع إلى مواكبة الحضارة وتطوراتها بإنتاجاتها الثقافية والعلمية يكمن في الانطلاق من حيثُ وصلت لا الانكفاء، ومحاولة استثمار المنجزات الحضارية على هيئةِ مُستهلكٍ سلبيٍّ.
هذا هو جوهر التطلع الإماراتي إلى مواكبة الحضارة العالمية والإسهام في دفع عجلتها إلى الأمام وعدم الاكتفاءِ بالأحلام، ولعلَّ أبرز الإنجازات البشرية في العصر الحديث تتبلور في الخروج من دائرة الأرض الضيقة إلى الفضاء الرحبِ؛ لاستكشافه وفهم الطبيعة التكوينية للكونِ الذي تشكل الأرض جزءاً من أجزائه.
ولا يمكنُ فهم الجزء من دون استكشافِ النظام العام الذي يدور هذا الجزءُ في مداراته الشاسعة، وهو ما كانَ حتى سنواتٍ قليلةٍ حلماً عربياً وشغفاً خيالياً كخيالات الشعراء الحالمين بالنسبة للشباب العربي، حتى بدأت دولة الإمارات بتعبيد الطريق نحو هذه الأحلام بخطواتٍ واقعيةٍ؛ من خلال إطلاقِ "برنامج الإمارات لرواد الفضاء" عام 2017، الذي بعَثَ "هزاع المنصوري" عام 2019 كأول رائد فضائي إماراتيٍّ وعربيٍّ إلى محطة الفضاء الدولية، وثالث عربي يصل الفضاء.
ولم يكتفِ البرنامج بهذه البعثة، بل أكَّدَ المؤكَّدَ بأنَّ هذه أول خطوة على هذا الطريق والخطواتُ الكبيرة تأتي تباعاً؛ فأتبعت الإماراتُ تلكَ البعثة برحلةٍ أُخرى لرائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي في مهمة أطول أمداً وأكثرَ عملاً؛ في رحلة تمتد لستة أشهر تتخللها الكثير من التجارب العلمية، والمهمات الفضائية في التعرف على المحطة الدولية ومهامها وتجاربها، وتجربة السير في الفضاءِ؛ فاتحةً الباب على مصراعيه أمام إنشاءِ جيلٍ تكونُ رحلة الفضاء عنده عملاً دؤوباً وسيرةً علمية ومهنية لا مجرد حلمٍ خياليٍّ.
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل مَن يقرأ هذه الإنجازات العلمية والتاريخية غير المسبوقة: ما الفائدة المرجوة من هذه البرامج والبعثات؟
لا شكَّ بأنَّ هذه البرامج والبعثات الفضائية تستهلك موارد اقتصادية ضخمة، لكن إذا ما قورنت بالنتائج التي ستتمخض عنها في المستقبل القريب أو المتوسط ولا نقول البعيد، سنجد أنَّ التكلفة شبه صفر مقابل النتائج، وفي شتى المجالات ومنها:
أولاً: تقانة المعلومات: فهذه البعثات المليئة بالتجارب العلمية وجمع البيانات من الأرض والفضاء يجعل من برنامج الفضاء بنكاً ضخماً من المعلومات والبيانات التي يتسابق الجميع إلى الوصول إليها لبناءِ الاستثمارات العلمية والاقتصادية على أسس صحيحة ومتينة، بالإضافة إلى استثمار هذه البيانات في كل مجالات استقرار البلاد أمنياً ومناخياً واقتصادياً، ووضع البلاد على سكة المنافسة العالمية في كل مجالات التقدم والتطور والنهوض.
ثانياً: بناء مجتمعٍ علمي: من البديهي أنَّ مراكز الفضاء تعتمد على أعلى وأدق المعايير العلمية والأدوات التكنولوجية في كافة المجالات العلمية الحيوية والبيولوجية والطبيعية وحتى العلوم البحتة؛ الأمر الذي سيدفع بالتطور العلمي للبلدان التي تُطلِق البرامج الفضائية، من خلال تنشيط الشغف بالعلم والتكنولوجيا والبحث العلمي مما يرفع في سوية المجتمع وجعل العلم هو البوصلة والمنهج، بالإضافةِ إلى فتح المجال على أوسع نطاقٍ أمام الابتكار والاستفادة من آخر ما توصلت إليه الحضارة البشرية من علمٍ وحضارة التي ستدخل البلاد عبر بوابة برنامج الفضاء.
ثالثاً: فهم كل ما يهم البلاد محلياً وعالمياً: فبرامج الفضاء العالمية كلها تنطلق من الهواجس الوطنية أولاً والعالمية ثانياً؛ فبرامج الفضاء الروسية والأمريكية – على سبيل المثال لا الحصر – تنطلق من الهواجس الروسية والأمريكية العلمية والأمنية والاقتصادية وتبادل بعض البيانات مع دول العالم بما يخدم المصالح الوطنية في الدرجة الأولى؛ لذلكَ فاهتمام دولةٍ مثل الإمارات بهذا المجال وانطلاقها فيه يجعل منها دولةً فاعلةً في الحضارة العالمية، ودارساً جامعاً مهتماً بما يمسه في الدرجة الأولى علمياً ومناخياً واستثماراً للموارد، بما يجعله على الطريق الصحيح نحو النهضة العلمية والتكنولوجية في الانتقال بالعالم كله نحو حضارةٍ جديدةٍ أكثر أماناً ورخاءً وسلاماً للعالم والإنسان.
لذلكَ فإن برنامج الفضاء الإماراتي يعد نواةً حقيقيةً لمشروع إمارات العلم والعلماء، وإمارات الحضارة ومواكبة آخر ما توصل إليه الإنسان في بناء الحضارة البشرية، والعمل الدؤوب على تطويره وإضافة اللمسات والبصائر العربية المتقدة على دروب العلم النافع، الذي كانَ العربُ يوماً ما جذوته التي لا تنطفئ لتعود هذه الجذوة على يدِ دولة الإمارات العربية المتحدة التي يفخر بها كل عربيٍّ، بتحويل علوم الفضاء واستكشافه من حلمٍ عربيٍّ إلى واقعٍ حاضرٍ بيَدٍ عربيةٍ وعقلٍ عربيٍّ وقدمٍ عربيةٍ إماراتيّةٍ تطأ الفضاء سابحةً في مداراته متطلعةً إلى استثماره لنهضة الإماراتي والعربي والإنسان حيثما وجد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة