مشكلة الرئيس التركي الأساسية أنه يرى في نفسه قوّة لا وجود لها في الحقيقة.
تقوم علاقات الدول على منظومات توصّلت إليها الحضارات الإنسانيّة بعد تجارب مريرة دفعت ثمنها الشعوب دما وترابا.
وبدأت الخلافات تحل بين البشر على امتداد التّاريخ، عبر اتفاقيات تتوصل إليها الحكومات بإرشادات من مسؤوليها وتوجيهات من حكمائها، وتنتهي بتوقيع الحكام والقادة الذين يتمتعون بالنزاهة والشرف. إلا أن ذلك لم يمنع وجود بعض الخروقات لقوانين العلاقات الدولية التي شهد عليها التاريخ لبعض القادة.
لكن ما لم يشهد مثله التاريخ من قبل هو مسيرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التي أساسها الطّرق القصيرة. إنه رئيس دخل السياسة واخترق عقول شعبه مستغلاً قدسية الدّين، وحلم استعادة الإمبراطورية العثمانية و"أمجادها " على حساب شعوب المنطقة.
مشكلة أردوغان الأساسية أنه يرى في نفسه قوّة لا وجود لها في الحقيقة، ويحاول استعمال عضلاته متفرّدا مُتعمِّدا إقصاء بقية أطراف الدولة، ليجرّ الشعب التركي نحو طريق اختاره لوحده. لكن حباله القصيرة المهترئة عجزت عن جر أحماله، خاصّة بما أضاف على عاتقها من مشاكل خارجية يضع بلاده فيها، ومآزق أدت إلى تراجع في شعبيته، وجعلت الشعب التركي يعاني اليوم من أزمات اقتصاديّة واجتماعية حادة.
وما وصل إليه الرئيس التركي الذي فشل بامتياز في قيادة شعبه، هو أنه غيّر قواعد سير العربات، فبدلاً من توجيه الحصان، تحوّل لجلد وقمع شعبه الذي عبأه في عربته لأنّه يرى في كل من يعارضه أو حتّى ينتقده خصما وعدوا، كما أنه لم ينقطع عن استفزاز القوى الخارجية، والغربية رغم علمه أن تطاوله عليها سيضر بلاده وخاصة الاقتصاد.
هو رجل يستغل الدين ويستثمره لحسابه الخاص، عمل ولا يزال يعمل على كل الخطوط لضمان بقائه، وضمان تحقيق خطة التّوسع. بدأ السلطان الحالم، محاولاته التوسعيّة في دول شمال إفريقيا، في تونس أيديولوجيا، وفي ليبيا عسكريا وبين الجزائر والمغرب يتلاطم.
وبعد خروج تركيا من أزمة احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون - الذي احتجز في تركيا بعد "محاولة الانقلاب" المزعومة على الرئيس التركي بتهمة تجسس لصالح حزب العمال الكردستاني وفتح الله غولن، وهما مجموعات معارضة صنّفها أردوغان على أنها إرهابية - ورغم تعارض مصلحة الحزبين، إلا أن القس الأمريكي اتهم بالتجسس لصالحهما معا!! وقد أدّى تعنت أردوغان إلى عقوبات أمريكية اقتصادية على تركيا، أضرت بالبلاد وضربت الليرة التي هبطت بشكل غير مسبوق. وفي النهاية استسلم الرئيس التركي وأفرج عن القس خاسرا كل مساوماته.
اليوم...تصاعدت حدة التوتر بين تركيا والولايات المتحدة مجدّدا بعد تزايد ضغط واشنطن على أنقرة بسبب شرائها منظومة دفاع صاروخي روسية. وشدد باتريك شاناهان، القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي في رسالة لنظيره التركي، خلوصي أكار، أمس على الوقف الفوري لأي تدريب جديد لطيارين أتراك على مقاتلات إف-35.
وقد أعطت الولايات المتحدة مهلة لتركيا حتى نهاية شهر يوليو/ تموز المقبل، للتخلي عن شراء صفقة كبيرة من منظومة صواريخ إس-400 الروسية. وترى واشنطن أن شراء تركيا منظومة إس-400 الدفاعية الروسية يشكل تهديدا لمقاتلات إف-35 الأمريكية التي تعتزم تركيا شراءها أيضا، وتقول إن أنقرة لا يمكنها الحصول على المنظومتين معا، وذلك حسب بي بي سي. هذا ما سيجلب لتركيا مآزق جديدة، وفي هذه المرة مع الأمريكان والروس معا.
لقد بدأ رجب طيب أردوغان حياته السياسية بأحلام مستحيلة، وهي استرجاع الإمبراطورية العثمانية، وأن يكون هو السّلطان متربعا على عرشها، وقد أصبح الأمر مكشوفا الآن والمسألة معروفة، وبالطبع المشكلة ليست في الأحلام والتطلعات، فمن حق الجميع أن يحلم، لكن المقلق في كل هذا هو أنه صدّق خياله المشحون ويعمل على أراضي أمتنا.
أردوغان بدأ حربه المعلنة على الأكراد، ثم أقصى أصدقاءه وحلفاءه، وأهمهم والده الروحي نجم الله أربكان، وعبد الله غول ثم صديق دربه فتح الله غولن، وتعدى لمراحل أخطر وهي إسكات كل صوت يجاهر بأنه ضدّه، وكتم الأقلام والحناجر.
مشكلتنا الحقيقية مع أردوغان أنه تعدى حدوده الجغرافية ودخل حدودنا ليدعم المتطرفين من المقاتلين، وأصحاب الأيديولوجيات من الإخوان المسلمين ومن لف لفهم. ركب على موجات شعوب لم يريدوا في البداية من ثوراتهم سوى تحسين أوضاعهم الاجتماعية، ليسرق الأحلام ويضعها بساطا على بلاطه، سرق أحلام الشّعوب بداية من تونس الليبرالية الحرّة المستنيرة التي تتصدّر الحضارة المتوسّطية بمستوى تعليم شعبها وتقبّله للآخر، دخل أردوغان هناك على خطّ الأحلام والحاجة للشعوب العربية، متّبعا سير "دومينو الثورات" لينفث أفكاره.
هو رجل يستغل الدين ويستثمره لحسابه الخاص، عمل ولا يزال يعمل على كل الخطوط لضمان بقائه، وضمان تحقيق خطة التّوسع. بدأ السلطان الحالم، محاولاته التوسعيّة في دول شمال إفريقيا، في تونس أيديولوجيا، وفي ليبيا عسكريا وبين الجزائر والمغرب يتلاطم.
أما الوضع في منطقة الشرق الأوسط فلم يكن العامل المساعد له هو ذكاءه أو تأثيره، بل للظروف غير المستقرة وطبيعة ما يحدث في العراق وسوريا من اقتتال، إذ كان لتركيا دور أساسي في تأجيجه، عبر تسهيل مرور المقاتلين الأجانب من حدودها وغيرها من المواقف التي كشفت في السنوات القليلة الماضية. كما استغل الموقف القطري المعادي لدول الخليج الدّاعم للإرهاب ليهرول نحوه عارضا خدماته.
عنكبوت حاول توسيع شبكته قدر الإمكان، ليجعل خيوطها تمتد لكل المنطقة، لكنه نسي في غمرة غروره أن خيوطه التي يراها حبالا قصيرة والزمن سيثبت أن لا بقاء لمثله، ومن يروي أحلامه من دم تتحول إلى كوابيس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة