الأبنية الحجرية بموريتانيا.. نمط عمراني مميز وفن يتوارثه الأجيال
تشتهر موريتانيا باستخدام الحجارة بشكل واسع في البناء بالمدن والقرى الريفية، كنمط عمراني يأبى الاندثار، لخصائصه الفنية وسماته الجمالية.
مدينة "أطار" عاصمة ولاية "آدرار" شمال موريتانيا، من بين مدن عديدة اشتهرت بمبانيها الحجرية العريقة التي لا تزال صامدة في وجه الزمن، لتدخل الحجارة كذلك في هذه المدينة حديثاً كوسيلة لتشييد وتزيين الأرصفة والشوارع، بل أيضاً استخدامها كمادة في أعمدة الإنارة العمومية في الساحات والشوارع.
وفي المدن الكبيرة يستخدمها الأغنياء مشذّبة لتزيين واجهات منازلهم، وبفضل الماكينات الجديدة والمعدات الحديثة يتم تصغير "لبنة الحجارة" لتصبح في حجم اللبن الأسمنتي، وهو ما يجعل الجدران أقل سمكاً، ويقدم مظاهر أجمل للمساكن والأبنية.
وهناك نمط آخر لاستخدام الحجارة في البناء التقليدي غير مشذبة في شكل جيد، لأن تشذيبها الكامل يأخذ وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً، وبالتالي مالاً كثيراً، لأن القائمين على العملية لا يستخدمون إلا مطارق حديد يدوية.
وتمتاز العمارة الحجرية الحديثة في موريتانيا بثراء أنواعها وتعدد أشكالها ما جعلها تدخل وبقوة في مجال التزيين والزخرفة والتبليط للأبنية والإنشاءات كمنافس قوي للمواد المستوردة من الخارج.
وكما أصبحت الأبنية الحجرية، نمطاً عمرانياً حديثاً في المدن الكبيرة وعواصم بعض الولايات في الشمال والشرق، كانت الأبنية الحجرية السمة العمرانية الغالبة على العمارة في المدن الموريتانية القديمة المصنفة كتراث عالمي من قبل منظمة اليونسكو مثل: "شنقيط"، و"وادان" و"ولاتة"، و"تيشيت".
فقد اكتسبت هذه المدن الأخيرة شهرتها وأصبحت مقصداً للسياح بسبب نمطها العمراني الحجري الذي لا يزال صامداً حتى الآن بفضل محافظة الأهالي على نموذج البناء المتميز الذي يعود للقرن الـ10 الميلادي، وكذلك أعمال الترميم المستمرة للحفاظ على خصوصية النمط العمراني التقليدي لهذه المدن.
لا تزال أحياء وأزقة وشوارع في مدن موريتانيا الأثرية القديمة تحتفظ بنمطها العمراني الحجري في تحدِ لظروف وعوامل التعرية، من بينها منارة مسجد مدينة "شنقيط" الذي تم بناؤه من الحجارة الخالصة، قبل 8 قرون لتكون شاهدة على قوة وصلابة هذه الإنشاءات وخصائصها العمرانية الفريدة من نوعها.
وتتميز خصائص عمارة جامع "شنقيط" بالجمع بين البساطة والتناسق الهندسي الدقيق، ويجد الزائر نفسه مأخوذاً إزاء هذا النمط الفني والمعماري المميز من جهة، والتكيف مع طبيعة صحراوية قاسية وعادات وأنماط سلوكية متوارثة على مدى مئات السنين من جهة أخرى.
اهتمام متجدد
عودة الأبنية الحجرية إلى مشهد العمارة الحديثة في موريتانيا أوجد اهتماماً متجدداً بالمجال وفتح فرصاً واعدة لانتعاش النشاط، يعكسها تنامي ورش صناعة وحدات البناء الحجري المعروفة بـ"اللبن" في مقالع خاصة باستخراجها ونحت هذه الوحدات على أطراف المدن التي تشتهر بهذا النوع من العمارة.
كما تميزت مدن ومناطق بعينها بجودة حجارتها التقليدية للبناء وإقامة المنشآت الأخرى كالأرصفة والشوارع، مما جعلها وجهة للمستثمرين في هذا المجال.
وأنشأت الحكومة خلال السنوات الأخيرة مؤسسة عمومية لتنفيذ الأشغال المنجزة بالحجارة التقليدية، عهدت إليها بالقيام بأرصفة وتزيين الشوارع والمحاور الطرقية بالعاصمة باستخدام هذه الحجارة.
إلى جانب استخدام الحجارة حتى في تشييد السدود المائية، كبديل عن الإسمنت والمواد المستوردة من الخارج في محاولة للاستفادة من تضاريس وخصائص التربة المحلية للبلد.
وبدأت وزارة التجهيز الموريتانية مؤخراً بالتعاون مع هذه المؤسسة تنفيذ مشروع لتشييد 13.4 كم من الأرصفة المصنعة بالحجارة المحلية، ينتظر أن تكتمل فيه الأشغال بعد 5 أشهر.
وإضافة إلى الجانب العمراني يهدف المشروع لتحسين ظروف المواطنين بتوفير فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لليد العاملة المحلية.