تحويل الأموال عبر الموبايل.. مهنة ولدت من رحم أزمة اقتصاد السودان
يقوم معظم السودانيين بتحويل أموالهم داخل البلاد في شكل أرصدة عبر الهواتف، ما جعل من تحويل الأرصدة الهاتفية إلى أموال مهنة لآلاف الشباب.
في السودان يتجاوز استخدام بطاقات شحن الهاتف المحمول المكالمات الهاتفية إلى عوالم أخرى، فالأرصدة المتوفرة على الهواتف تمثل رصيداً مالياً وفرت له خدمة "تحويل الرصيد" التي تتيحها شركات الهاتف النقال في السودان للمشتركين فرصة أن يتحول من مجرد رصيد للخدمة إلى تجارة لها سوقها.
ويقوم معظم السودانيين بتحويل أموالهم إلى داخل البلاد في شكل أرصدة عبر الهواتف، ما جعل من تحويل الأرصدة الهاتفية إلى أموال مهنة لآلاف الشباب العاطلين عن العمل في السودان.
بيد أن إجراءات حكومية أصدرتها السلطات السودانية مؤخراً، بتحديد سقف لهذا النوع من التحويلات المالية في مسعى للسيطرة على الكتلة النقدية، وضع عراقيل جديدة أمام من يعملون في المهنة المعروفة شعبياً بتحويل الرصيد.
وخلال الأعوام الماضية ومنذ انتشار شبكات الهاتف النقال في البلاد، ازدهرت خدمة تحويل الأموال باستخدام كروت شحن الدفع المقدم، لتسيطر تماما على جميع أنواع التحويلات المالية التي يفترض أن تقدم خدماتها البنوك السودانية.
ولأسباب ثقافية واقتصادية ظل السودانيون على مسافة من التعامل مع المصارف في التحويلات المالية، ولا يزال الوضع مستمرا لولا إجراءات إلزامية جعلت من التحويلات المالية عبر الموبايل مقيدة بشروط.
كانت لخدمة بيع الرصيد، كما يقول أحد العاملين فيها لـ"العين الإخبارية"، صولات وجولات في معترك الاقتصاد السوداني الذي يواجه مطبات عديدة، فقد صنفت دراسة صادرة عن البنك الدولي السودان في المرتبة الثانية في أفريقيا بعد كينيا في قائمة أعلى الدول الأفريقية في تحويل الأموال عبر الهاتف، وقدرت أن ما لا يقل عن 80% من السودانيين يسهمون في الخدمة، التي تحقق أرباحا من عائدات تكلفة التحويل المالي بنسبة تصل إلى 10% من المبلغ المطلوب تحويله.
وتستخدم الخدمة التي تعتمد العملة المحلية فقط، في شحن الهواتف الجوالة بأرصدة مالية لإجراء المكالمات برصيد قد يقل أو يزيد على كروت الشحن المعتمدة، كما تستخدم في تحويلات مصروفات الطلاب في الجامعات من أولياء أمورهم من وإلى ولايات السودان المختلفة، وتعمل أيضا كخدمة في تسديد الديون وغيرها من الاحتياجات المالية، ويتم ذلك عبر بيعها مرة أخرى مقابل نسبة متفق عليها، كما وفرت الخدمة وظيفة مناسبة لكثير من الشباب الباحث عن فرصة عمل.
ولم تسلم هذه الخدمة من معوقات، فقد هاجمها بعض الدعاة عند انطلاقتها قبل سنوات، واعتبرت نوعا من أنواع الربا، ما اضطر هيئة علماء السودان إلى إصدار فتوى بعدم وجود أي شبهات ربا تتعلق بعمليات تحويل الرصيد، لافتة إلى أنها عمليات تتم نظير خدمات، واعتبر الأمين العام للهيئة محمد عثمان صالح، أن تحويل الرصيد مجرد ثمن لخدمة تقدم، وقال: ما يتم خصمه في تحويل الرصيد ليس سوى ثمن نظير خدمة تقدم من قبل الشخص المحول ما دام أن الأمر يصب في مصلحة عمله، بخلاف الربا الذي يتم تعريفه على أنه كل سلف جر منفعة.
وبعد أن خرجت الخدمة سالمة من الوقوع في المحرمات الشرعية، وقعت في ورطة جديدة، فالأمور لا تسير كما يشتهي بائعو الرصيد، وأصبحت مهنتهم مهددة بالزوال، حيث حددت اللجنة العليا للدفع الإلكتروني، تقليص سقف تحويل الرصيد عبر الموبايل إلى 1000 جنيه في اليوم (25) دولارا كأعلى سقف في اليوم الواحد، لتحويل رصيد الاتصالات داخل شبكات الهواتف المختلفة في مهنة يقدر حجم التداول فيها بمليارات الجنيهات السودانية.
وكان مدير شركة الخدمات الإلكترونية المصرفية عمر حسن العمرابي شدد على استحداث نظم إلكترونية أكثر تنظيما للدفع عبر الموبايل بدلا من تحويل الرصيد، لافتا إلى إمكانية استفادة كل شرائح المجتمع من هذه الخدمة، مبينا أنها حلول علمية متطورة للنظم المصرفية وعملية إدارة الكتلة النقدية بما يضمن تحصين الاقتصاد من غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ونوه بأن عمليات تحويل الأرصدة تدار خارج النظم الاقتصادية والمالية للبلاد، وأنه لا رقابة عليها، ما يمثل مظنة لتمويل عمليات قد تشكل تهديدا اقتصاديا.
وأوضح العمرابي، أن خدمة الدفع عبر الموبايل لا تمثل بأي حال قطعا لأرزاق من يمتهنون تحويل الرصيد، معتبرا أن ما أثير من نقاش حول هذا الشأن لا أساس له من الصحة.
ووصف متحدث باسم بنك السودان المركزي، في حديث لـ"العين الإخبارية"، الكتلة النقدية من خدمة التحويل عبر الموبايل بأنها تخلق اقتصاداً مريضاً، وعدها بمثابة "دم فاسد" لا يتأتى ضخه في الشريان، وأوضح أن قرار وضع سقف لعملية التحويل تم بعد تكوين لجنة مشتركة بين البنك ووزارة الاتصالات وصولاً لتلاشي الظاهرة وإحلال خدمة مصرفية.
وعلق أحد العاملين في مجال تحويل الرصيد بعد الإجراءات الأخيرة، بالقول: "سوف أبحث عن عمل آخر"، معتبرا أن تحديد وتقليص سقف للتحويلات عبر الموبايل من شأنها خفض الأرباح إلى نسبة متدنية للغاية، وتجعل من ممارسة هذه المهنة ليست ذات جدوى.
لكن البائعين عادة ما يبتكرون أساليب جديدة في التحايل على الإجراءات الرسمية التي تهدد مزاولة أعمالهم، حيث يقوم بالحصول على أكثر من شريحة جوال وبأسماء مختلفة لاستخدامها في تحويل الرصيد عبر أكثر من هاتف جوال، وبالتالي يحاول رفع سقف التحويل إلى أكثر من 1000 جنيه في اليوم الواحد.
ويرى الخبير الاقتصادي محمد إبراهيم كبج، أن القرار جاء دون مراعاة ظروف السودان والبطالة الموجودة بين الشباب الذين أتاحت وخلقت لهم عملية تحويل الرصيد فرص عمل، داعياً بنك السودان إلى ضرورة النظر في القرار والعمل على تقنينها بدلاً من إيقافها، لأنها تمثل ضرراً كبيراً للشباب.
aXA6IDMuMTQuMjUxLjEwMyA= جزيرة ام اند امز