في زحمة الحرب المشتعلة في السودان بلا هوادة، وفي ظل الرؤية العالمية المشتتة بين أوكرانيا وغزة، يطلّ خطر بالغ الجسامة لا يكاد يُرى، أو لعلّ العالم لا يريد أن يراه.
خطر تحوّل السودان، شيئاً فشيئاً، إلى الملاذ الجغرافي الجديد للتنظيمات الإسلامية المتطرفة، وإلى منصة لحركات العنف الجهادي المسلح.
منذ عودة الحركة الإسلامية السودانية (الكيزان) إلى الواجهة عبر الانقلاب الذي نفّذه الجنرالان المتحاربان اليوم (البرهان/حميدتي) على الحكومة المدنية الانتقالية التي كان يترأسها الدكتور عبد الله حمدوك، ارتدّت البلاد إلى حالة من الفوضى المقيمة. فانتهز الإسلاميون الفرصة ليحوّلوا هذه الفوضى إلى حرب تمهّد لعودتهم إلى السلطة، فعادت الأجهزة العسكرية والأمنية - التي كانت خاضعة لهم أصلاً من حيث البنية الأيديولوجية - إلى قبضتهم مرة أخرى.
ووسط هذا المناخ المتسيّب، ظهرت كتائبهم الجهادية المسلحة إلى العلن لتقاتل باسم الجيش وبشعاره، بأسمائها الموحية: البراء بن مالك، البنيان المرصوص، البرق الخاطف، أسود العرين، لواء النخبة، العمل الخاص .. وغيرها من تشكيلات السلفية الجهادية التي تضم في صفوفها من خاضوا تجارب قتالية في ليبيا والصومال وسوريا والعراق.
ولم يتبقَّ لِيكتمل المشهد إلا إعلان السودان أرضاً لـ "الجهاد"، وهو ليس احتمالاً عابراً، بل واقعٌ اكتملت شروطه الموضوعية وتكاملت عناصره أمام أنظار عالم يكتفي بالمشاهدة، أو يتعامى عمداً.
إنّ وجود هذا الخليط من المقاتلين في بلد كالسودان، يضم أصلاً في صفوف جيشه النظامي عناصر ذات خلفيات جهادية، ويعيش انهيار الدولة، يشكّل في حد ذاته وصفة كاملة لإعادة إنتاج "الملاذ الجهادي" الذي عرفه العالم في تسعينيات القرن الماضي، بل وربما بصورة أشد خطورة.
ولعلّ ما نشرته صحيفة (النبأ)، الذراع الإعلامية لتنظيم القاعدة، في عددها الأسبوع الماضي، يحمل مؤشراً بالغ الدلالة. فقد دعا التنظيم الإرهابي عناصره صراحة إلى "الجهاد" في السودان، واصفاً الحرب الدائرة بأنها "حرب المسلمين" التي تستهدف “إضعاف البلدان الإسلامية وتدمير الإسلام”، وحاضّاً - ضمناً وبلا مواربة - على الاصطفاف خلف الجيش. كما صنّف كل من يقف في الجانب الآخر ضمن خانة العملاء و"المرتدين".
واستخدم التنظيم الإرهابي في بيانه مفردات محرضة ومشحونة بالعاطفة: قتل، اغتصاب، تهجير، حرق، انتهاك الأعراض، تدمير بيوت الله، إبادة للأهالي.. في محاولة فاضحة لتحويل نزاع داخلي مركّب إلى معركة بين "مسلمين وكفار"، متجاوزاً عمداً جذور الحرب بكل مستوياتها؛ السياسية والسلطوية والاجتماعية وتعقيداتها اللاحقة.
والأخطر أنّ البيان قدّم السودان بوصفه "الساحة التالية" بعد فلسطين والعراق وأفغانستان واليمن، أي بوصفه مسرح الجهاد المقبل للتنظيم.
هذا التلاعب الخطابي ليس جديداً على التنظيمات الجهادية، لكنه في حالة السودان ينطوي على خطورة مضاعفة نظراً لتاريخ البلد مع الحركات المتطرفة. فالذين يهونون من احتمال تحوّل السودان إلى منصة جديدة للتنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام والشباب الصومالي، يغفلون أنّ السودان في ظل الحركة الإسلامية السودانية ذاتها التي تقاتل اليوم تحت راية الجيش، كان أول من زرع بذور الإرهاب العابر للحدود في الإقليم.
ففي عام 1991، تحوّلت الخرطوم إلى موئل لشذاذ الآفاق والإرهابيين من كل بقاع العالم. وقد مُنحوا الملاذ والسلاح ووثائق السفر، واستضافت البلاد أسامة بن لادن لسنوات (1991-1996)، وتورّطت مع مجموعته لاحقاً - كما أثبت حكم قضائي أمريكي - في تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام.
وفي يونيو 1995، شاركوا في التخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا، ثم فتحوا البلاد للحرس الثوري الإيراني - حليفهم الحالي - لإقامة منشآت تصنيع حربي وُزّعت منها الأسلحة للنزاعات في أفريقيا وللجماعات الإرهابية في المنطقة.
إنّ تجربة السودانيين الممتدة لثلاثة عقود مع الإسلام السياسي - ممثلاً في الحركة الإسلامية التي تحاول اليوم العودة إلى السلطة متخفية خلف بندقية الجيش - تؤكد أنّ مشروعهم السابق لم يترنّح ولم يتراجع إلا حين اصطدم بجدار دولي وإقليمي حازم، فرض عليهم العقوبات والعزلة ودعم القوى المدنية المناهضة لهم. فتراجعوا قليلاً ولبرهة فقط، وما إن غفل عنهم المجتمعان الدولي والإقليمي، وابتلعت بعض دول المنطقة أكاذيب "الاعتدال" الذي هبط عليهم فجأة بخفة ساحر، حتى عادوا إلى ذات الأجندة الدموية التوسعية التدخلية.
إنّ الإسلام السياسي، في جوهره الفكري، ليس مشروعاً وطنياً بل منظومة تمدّد إمبراطوري ذات نزعة تدخلية توسعية. وخطره يتجاوز حدود الدولة إلى جوارها، خاصة في أفريقيا، حيث يمكن للتعدّد الديني والتنوّع الثقافي أن يتحولا بسهولة إلى شرارة فتنة إذا ما دخلت عليها أدوات التحريض الجهادي.
والمفارقة المثيرة للدهشة أنّ العالم، بكل مؤسساته ومراكزه البحثية وأجهزته الاستخبارية، يقف صامتاً أمام هذا الخطر المحدق!
إنّ مشهد انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021 يتكرر كما هو؛ حين صمتت القوى الدولية على الانقلاب، وكأن السودان في كوكب آخر يمكن تركه على حافة الهاوية دون أن يهتزّ شيء في المنطقة. ثم استيقظ الجميع على حرب مدمرة وكارثة إنسانية غير مسبوقة. واليوم، يبدو العالم على وشك تكرار الخطأ ذاته: يتعامل مع خطر الإرهاب المتشكل كأنه شأن هامشي، لا مفترق طرق تاريخي قد يعيد رسم خريطة التطرف والإرهاب في المنطقة والعالم.
إنّ ترك السودان رهينة لفوضى الجماعات الدينية المتطرفة ليس نزهة، بل مغامرة لها أثمان تتجاوز حدوده. فالدول لا تتحوّل إلى ملاذات للتطرف دفعة واحدة؛ إنها تنزلق تدريجياً، عبر غياب الحضور الدولي، وضعف الدولة، وتغلغل الميليشيات، واستغلال الجماعات الجهادية للخطاب الديني في زمن اليأس والقهر.
وكل هذه الشروط، للأسف، قائمة اليوم في السودان: دولة منكسرة، جيش بقيادة مؤدلجة، حركة إسلامية تستعدّ لإعادة إنتاج مشروعها القديم، وفراغ أمني واسع يغري كل من يبحث عن "أرض عمليات" جديدة.
تشير كلّ المؤشرات الأمنية إلى أنّ السودان يتقدّم بخطى مقلقة نحو أن يصبح نقطةَ تموضعٍ متقدمة للجماعات الجهادية، ما لم يُعالج الفراغ الأمني على وجه السرعة. ولن يتحقق ذلك إلا عبر مشروعٍ واضح لبناء دولة مدنية كاملة السيادة، تُعيد للمؤسسات هيبتها وللسياسة معناها وللمجتمع أمنه المفقود.
السودان اليوم واقفٌ على تخوم الهاوية، والعالم واقفٌ عند تخوم غفوته. وإذا ظلّ غارقاً في سباته هذا، فسيجد نفسه -لا محالة- يستيقظ على خريطةٍ جديدة تُرسم بالسيف والبارود، يكون السودان فيها الشرارةَ لا النهاية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة