في خضم واحدة من أكثر الأزمات دموية واضطرابا في القارة الأفريقية، برز نهج إماراتي متماسك في مقاربة المأساة السودانية، نهج يجمع بين ثبات المبدأ وإنسانية الموقف، نهج مبني على خبرة فاعل إقليمي يده دوما ممدودة بالسلام صانعا ووسيطا وضامنا.
فمنذ اندلاع الحرب في السودان عام 2023، حافظت دولة الإمارات على خطاب واضح لا ازدواج فيه ولا مواربة، يحمل لاءات مشروطة تضع خارطة طريق لمستقبل السودان وتوقف نزيف الدم، حيث لا حل عسكري للأزمة، ولا مستقبل لهذا البلد إلا بانتقال سياسي يقرره الشعب ويقوده مدنيون عبر عملية انتقالية شاملة تتسم بالشفافية لا تخضع لسيطرة أي طرف متحارب.
هذا الموقف، انعكس في بيانات دولة الإمارات الرسمية ومساعيها الدبلوماسية وفي مشاركتها النشطة ضمن المجموعة الرباعية التي تضم السعودية ومصر والولايات المتحدة، ليتحول دورها من دعم الاستقرار إلى صناعة شروطه عبر الحوار والمساعدات والوساطة والدبلوماسية الإنسانية.
لقد أدركت دولة الإمارات أن الأزمة السودانية ليست مجرد نزاع على السلطة، بل هي مأساة إنسانية تتقاطع فيها خطوط السياسة بالأيديولوجيات المدمرة التي لا تبقي ولا تذر ولا تعبأ بإنسان ولا حجر، ومن هنا جاء إصرارها على هدنة إنسانية فورية تتيح وصول المساعدات وتوقف نزيف المدنيين، بوصفها المدخل الضروري لأي تسوية سياسية لاحقة.
ولعل البيان الرباعي المشترك في شهر سبتمبر/أيلول الماضي يشكل لحظة فارقة في هذا المسار، إذ قدم خريطة طريق واضحة تقوم على هدنة أولية، يعقبها انتقال مدني شفاف لا يخضع لهيمنة أي طرف متحارب، في تجسيد عملي لمبدأ أن السلام لا تفرضه القوة ولا ترسمه فوهات السلاح، داعيا في الوقت نفسه إلى عدم منح المجال للأطراف الإقليمية والمحلية المزعزعة للاستقرار الساعية للاستفادة من استمرار النزاع في السودان.
من هنا كان لزاما أن نتوقف قليلا عند الدور الإماراتي الذي أرسى نهجا متوازنا يجمع العمل الإنساني الميداني والعمل الدبلوماسي الهادئ الرصين، فبينما ينهمك المتحاربون في حسابات النفوذ والمكاسب، وجهت دولة الإمارات بوصلتها نحو الإنسان السوداني أولا، فكانت حاضرة بعملها الإنساني حيث سيرت 162 رحلة إغاثية، وأنشأت مستشفيات ميدانية في تشاد وجنوب السودان، وقدمت دعما مباشرا لبرامج الأمم المتحدة واليونيسف، ومساعدات قاربت 4 مليارات دولار خلال عقد واحد.
ولقد دعمت دولة الإمارات السودان وشعبه الكريم على مدى العقود الخمسة الماضية، بما في ذلك خلال الأزمات والصراعات المختلفة التي مر بها وستواصل دولة الإمارات دعم الشعب السوداني في سعيه نحو تحقيق السلام والاستقرار وضمان مستقبل مزدهر له.
واليوم، تحتضن دولة الإمارات جالية سودانية تضم أكثر من 250 ألف مقيم و33 ألف طالب يسهمون بشكل إيجابي في المجتمع الإماراتي ومستقبله المشترك، وقد أصبحوا جزءا لا يتجزأ من نسيج هذا الوطن الذي يعتبرونه بيتهم الثاني.
أما على الصعيد السياسي، فقد واجهت الإمارات، بهدوء وثقة راسختين، سيل الاتهامات الباطلة بتدخلها في النزاع وحملة الدعاية المضللة والممنهجة من سلطة بورتسودان، والتي تشكل جزءا من نهج متعمد للتهرب من المسؤولية عن أفعالهم وتحويل الأنظار، وذلك بهدف إطالة أمد الحرب وعرقلة أي مسار حقيقي للسلام.
ردت دولة الإمارات على تلك الاتهامات بالقرائن والحقائق، تحدثوا عن تزويد أحد أطراف النزاع بالسلاح، فدحضت محكمة العدل الدولية هذه المزاعم، وبالمثل أيضا فعلت التقارير الدولية، لعل أبرزها تقرير خبراء الأمم المتحدة في أبريل الماضي الذي أكد عدم وجود أي أدلة على تلك الاتهامات.
تحدثوا زورا وبهتانا، عن إرسال مرتزقة للقتال هناك، فجاءهم الرد من "خدمة تقصي الحقيقة من "رويترز" في أغسطس الذي نشرت تكذيبا لفيديو يصور ما قيل وقتها إنهم "جنود كولومبيون يقاتلون في مدينة الفاشر بالسودان بدعم إماراتي"، لكنه في الحقيقة كان فيديو يعرض تدريباً عسكرياً مشتركاً للناتو في إستونيا، وزد على ذلك الكثير والكثير من الادعاءات التي تقابلها الحقائق.
تحدثوا عن الذهب وسرقته، فارتدت الرصاصة في صدرهم، عندما كشف تقرير صادر عن موقع "أفريكا إنتلجنس" الشهير والمتخصص في الشؤون الأفريقية، عن النفوذ الواسع لعائلة رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان في السيطرة على قطاع الذهب، ذلك المورد الاستراتيجي الذي يشكل نصف صادرات السودان، وفي صدارة هذا النفوذ، كما ورد بالتقرير، يطل المحامي حسن البرهان، الذي يتولى إدارة مصالح شقيقه في ميدان التعدين.
ورغم ذلك التجني الفاحش بلا "برهان" لم تقف دولة الإمارات عند حدود الدفاع عن نفسها، بل مضت بخطى واثقة في مسارها الراسخ نحو توحيد المواقف الدولية وتغليب صوت السلام على ضجيج الدعاية، غير عابئة بمسيء ولا ناظرة إلى سليط، ولا مستمعة إلى عويل، ولا مكترثة لبغيض، فنهجها دوما تحويل العقبات إلى سلم ترتقي به نحو غايتها، والتي هي سلام السودان واستقراره لا حربه وأزماته.
ما سبق يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن تلك المزاعم ليست سوى محاولة لتشتيت الانتباه للتنصل من المسؤولية عن إطالة النزاع، ورفض الانخراط في جهود تحقيق السلام، وهو جزء من نهج مقصود للتهرب من المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين والتنصل من تبعات أفعالهم، بهدف إطالة أمد الحرب وعرقلة أي مسار حقيقي للسلام.
في جوهر هذا الموقف، يتجسد دور الإمارات الإقليمي الذي لا يقف عند حدود "الداعم الإنساني" بل يتجاوز "الفاعل الدبلوماسي"، الذي يجتهد يمينا ويسارا دون كلل أو ملل لقناعته بأن استقرار السودان ليس شأنا سودانيا محضا، بل ركيزة صلبة لأمن المنطقة واستقرارها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة