شهدت الأيام التي تلت سقوط مدينة الفاشر بيد قوات الدعم السريع منعطفًا حادًا في الحرب المعلوماتية حول السودان.
إذ اندفعت موجة منظمة على منصتيْ "إكس" و"تيك توك" تتهم دولة الإمارات بالتورط المباشر في الصراع. ما بدا للوهلة الأولى ردّ فعلٍ عفويًّا تحوّل سريعًا إلى حملة ذات ملامح تنسيق وتمويل ورسائل موحّدة، اعتمدت على محتوى بصري صادمٍ، كثيرٌ منه مفبرك أو منزوع من سياقه.
وفق رصد تفاعلي للحسابات النشطة، تشكّلت بنية الحملة من فسيفساء متباينة أيديولوجيًا لكنها متقاطعة الهدف: نحو 60% من الدفع جاء من حسابات ومنصات تنشط من لندن، فيما ساهمت شبكات مرتبطة بالحوثيين بنسبة تقارب 22%، وتوزّع الباقي بين منصات محسوبة على الإخوان في إسطنبول وتونس، وأصوات إعلامية قريبة من «حزب الله» في بيروت.
ورغم تناقض أجندات هذه الأطراف عادةً، فقد جمعها في هذا الظرف هدف واحد: شيطنة الإمارات ونزع الشرعية عن سرديتها في الملف السوداني.
اعتمدت الحملة على ثلاث ركائز رئيسية:
أولها الفيديوهات والصور المفبركة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وأبرزها مقطع صادم لأمّ وأطفال تبيّن لاحقًا أنه مُولَّد رقميًا، وصور أقمار اصطناعية زُعم أنها تُظهر «برك دم» في الفاشر واتضح أنها صور مُضلِّلة أو قديمة.
وثانيها التلاعب الخوارزمي عبر جيوش من الحسابات الوهمية وشراء الترندات لإيصال الوسوم إلى القمة خلال ساعات، مع تنشيط حسابات خامدة وتوظيف مؤثِّرين مأجورين لتوسيع الانتشار.
أما الركيزة الثالثة فهي القصّ من سياقات أخرى، إذ أُعيد تدوير مقاطع قديمة من نزاعات مختلفة مع تعليقات توهم بأنها من دارفور بعد معركة الفاشر.
تمحورت السرديات الاتهامية حول ثلاث نقاط: تزويد الإمارات للدعم السريع بالسلاح والمسيّرات، والسعي للهيمنة على ذهب السودان، والتواطؤ في «مجازر الفاشر»، لكن هذه الروايات تفتقر إلى أدلة موثوقة أو تقارير أممية حاسمة، وتعتمد على اجتزاء تصريحات سياسية وانتقائية إعلامية، ما يجعلها قابلة للانتشار لا للصمود أمام التحقق المهني.
في المقابل، جاءت الاستجابة الإماراتية عبر ثلاثة مسارات متكاملة: نفي رسمي واضح أكّد ثبات موقف الدولة الداعي لوقف الحرب والعودة إلى الحكم المدني، وتحرك إعلامي مهني لتفنيد المزاعم وكشف الفبركات، وإبراز سجلّ المساعدات الإنسانية الإماراتية في السودان بوصفه دليلاً عمليًا على تناقض روايات التشويه.
كما ساهمت تقارير تحقق دولية من وكالات مثل «فرانس برس» و«دويتشه فيله» في كشف زيف كثير من المحتوى الذي استُخدم في الحملة.
إلا أن النقطة الأكثر دلالة هي أن 60% من الحملة انطلقت من لندن، ما يكشف أن رأس الحربة يتمثل في مكاتب مدعومة من الجهة التي تدير الشبكة، لها فروع متوزّعة ومهمتها تجنيد «مرتزقة» للاحتجاجات وتسخير بوتات وحسابات إلكترونية لقيادة حملات التضليل. هذه المعطيات تستدعي بحثًا استقصائيًا مستقلًا لفضح هذه المكاتب وكشف تمويلها وآليات عملها ومحاسبة القائمين عليها.
السؤال الأهم اليوم: هل ما جرى تحالف منظم أم تلاقي ظرفي؟
يبدو أن التنسيق كان تكتيكيًا ومؤقتًا، إذ وجدت أطرافٌ مختلفة من الإخوان إلى الحوثيين مرورًا بإعلام معارض في لندن في استهداف الإمارات فرصةً لتصفية حسابات قديمة وتسجيل نقاط سياسية، قبل أن تتبدّد الحملة مع انكشاف زيفها.
لقد أظهرت حملة الفاشر كيف تُصنع الأكاذيب في عصر الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن أن تتلاقى أطراف متناقضة على هدف واحد حين يتعلّق الأمر بضرب دولة ناجحة ونموذجٍ مستقر.
دعونا نفكّر جيدًا.. من هي الدولة أو الجهة التي تملك القدرة على جمع كل هذه الفسيفساء المتناقضة، وهذه التقاطعات الأيديولوجية والفكرية، على هدفٍ واحد؟
الجواب واضح لكل من يتابع بوعي!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة