ليست حقيقة الحرب المشتعلة في السودان اليوم، كما يُروَّج لها، مواجهةً بين الجيش وقوات الدعم السريع، بل هي في جوهرها صراع بين مشروعين متناقضين:
مشروع الإسلام السياسي ممثلاً في الحركة الإسلامية السودانية (الإخوان المسلمين) التي أحكمت قبضتها على الجيش طوال ثلاثة عقود من حكم الرئيس المعزول عمر البشير، وتسعى اليوم إلى استعادة سلطتها عبر فوهة بندقية الجيش؛ والمشروع المدني الديمقراطي الذي يمثله التيار الديمقراطي الواسع، وعلى رأسه التحالف المدني الديمقراطي (صمود)، الساعي إلى إقامة دولة مدنية حديثة تستمد شرعيتها من إرادة الشعب لا من فوهة السلاح.
فالجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لم تكن بينهما خصومة تُذكر؛ بل كانا في انسجام تام، كوجهين لعملة واحدة. شكّلا معاً المجلس العسكري الذي تولّى الشراكة مع القوى المدنية بعد الثورة، حين أصبح البرهان رئيساً لمجلس السيادة، وتولّى حميدتي منصب نائبه.
وحين انقلبا على شركائهما المدنيين، فعلا ذلك جنبًا إلى جنب – مناصفة وتنفيذًا – في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 على الحكومة المدنية برئاسة الدكتور عبد الله حمدوك.
كان البرهان، وهو الواجهة المستترة للإسلاميين، قد انقلب لصالح مشروع الحركة الإسلامية الساعية إلى استعادة نفوذها المفقود. لكنه احتاج إلى قوات الدعم السريع لإنجاح الانقلاب، التي كانت قوة ضخمة لا يمكن تجاوزها.
ولتحقيق ذلك، أقنع حميدتي بالمشاركة عبر ذرائع مموّهة، دون أن يفصح له عن الهدف الحقيقي، وهو أن الانقلاب إنما جرى لصالح عودة النظام الإسلامي القديم، لا من أجل حكم عسكري مشترك يتقاسمه معه.
أما حميدتي، فشارك في الانقلاب لفرض السيطرة العسكرية الكاملة بمزاعم فشل المدنيين. وهكذا تمّ الانقلاب، حاملاً طابعًا من الغدر المركّب: غدر البرهان بحميدتي، وغدرهما معًا بالقوى المدنية. غير أن كليهما لم يتوقّع أن ينقلب السحر على الساحر.
فلم يكن حميدتي يدرك أن الانقلاب الذي شارك فيه ما هو إلا انقلاب الحركة الإسلامية بواجهة البرهان، كما لم يتخيّل البرهان أن يكتشف رفيقه الخديعة فينقلب عليه وينحاز إلى صف القوى الديمقراطية التي أطاحا بها سويًّا.
لقد أدرك حميدتي، متأخرًا، أن الانقلاب لم يكن ضد القوى المدنية فحسب، بل كان في جوهره انقلاب الحركة الإسلامية عليه أيضًا، بعد أن خطّطت للتخلّص منه في جولتها الثانية، بعد أن تفرغ في الجولة الأولى من إقصاء القوى المدنية وإجهاض ثورة الشعب وقطع الطريق أمام الانتقال الديمقراطي.
لم تمضِ فترة طويلة حتى اكتشف حميدتي أنه كان ضحية لمكيدة محكمة، فأعلن تبرّؤه من الانقلاب واعتذر للشعب، متعهدًا بتصحيح الخطأ والعودة إلى صف الثورة.
وبالفعل، بدأ يتعاون مع القوى المدنية بممارسة الضغط على البرهان للعدول عن الانقلاب، حتى وقّع الاثنان مع القوى الديمقراطية الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 برعاية الأمم المتحدة، تمهيدًا لاستعادة الانتقال المدني.
لكن، قبل حوالي أسبوع واحد من الموعد المرتقب للتوقيع النهائي، أشعلت الحركة الإسلامية النار عبر خلاياها داخل قيادة الجيش في 15 أبريل/نيسان 2023، لتنفّذ بالحرب ما عجزت عن تحقيقه بالانقلاب، وتعيد عجلة البلاد إلى المربّع الأول.
ولا شك أن ذلك حدث -كما تؤكد الوقائع - بدعم من دولتين أو ثلاث؛ منها ما يرى في الحكم العسكري الضامن الأوحد لمصالحه، ومنها ما تربطها بالحركة الإسلامية روابط أيديولوجية وثيقة.
هذه ليست قراءة سياسية، بل شهادة للتاريخ من شاهد ومشارك في أحداث لا تزال حيّة في الذاكرة، ومدادها لم يجف بعد، وشهودها أحياء.
لم أكن مجرد مراقب، بل كنت أحد المشاركين في الجهود التي سبقت التوقيع على الاتفاق الإطاري، وعلى تواصل مباشر مع الجنرالين اللذين كانت تربطني بهما علاقة قريبة.
قال لي أحدهما، في لحظة صدق نادرة، وكانت الحرب في يومها الأول:
إن من أشعل هذه الحرب في الصباح طرف ثالث داخلي، لا الجيش ولا الدعم السريع. كان ذلك الاعتراف قبل أن تتدحرج رواية الحرب سريعًا ككرة ثلج تتناسب طرديًا مع الكذب والتضليل.
بدأت الرواية المضللة بالقول إن القوى المدنية المنقلب عليها قد حرّضت الدعم السريع على الحرب، وانتهت - كعادة الإخوان في التهرّب من أزماتهم - بإلقاء اللوم على الخارج، بزعم أن دولة الإمارات أشعلت الحرب طمعًا في ذهب السودان.
وأتساءل: هل يمكن لعاقل أن يصدّق مثل هذا الزعم السخيف؟
كم يملك السودان أصلًا من احتياطي الذهب؟ وكم تبلغ كلفة حرب شاملة لمدة ثلاث سنوات في بلد كالسودان بمساحة ربع قارة أوروبا؟!
إن مثل هذه الأكاذيب لا تفسّر الحرب، بل تكشف ذهنية من اعتادوا تعليق كل فشل على شماعة الخارج.
ولعل ما قاله الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، في المنامة – البحرين الأسبوع الماضي، يلقي الضوء على الحقيقة. فقد صرّح بوضوح وشجاعة:
إن المجتمع الدولي - بما فيه دولة الإمارات - قد فشل فشلًا جماعيًا، وارتكب خطأ فادحًا بعدم الوقوف بحزم ضد الانقلاب العسكري في السودان في أكتوبر/تشرين الأول 2021، حين أطاح الجنرالان بالحكومة المدنية الانتقالية، وهو ما أدى في النهاية إلى الحرب الحالية.
هذا التصريح لا يكتفي بتفسير الحرب، بل يُعيدها إلى جذرها الحقيقي، وهو الانقلاب على المسار الديمقراطي.
فحين مرّ الانقلاب في صمت دولي مريب، بلا إدانة ولا ضغط جاد، شعر الانقلابيون بالأمان، فتمادوا حتى انفجرت الحرب.
واليوم، يتباكى العالم على ضحاياها، وكأنها كارثة نزلت من السماء، لا نتيجة لصمت وتواطؤ على أسبابها.
إن الذين يبكون على ضحايا الحرب من المدنيين اليوم، ينسون أن هؤلاء المدنيين أنفسهم هم الذين تُركوا يبكون وحدهم على ضياع حريتهم صباح ذلك اليوم المشؤوم من عام 2021، حين سقطت الديمقراطية على مرأى العالم، ولم تُرفع يد واحدة لإنقاذها.
ذلك الصمت لم يكن مجرد تقاعس سياسي، بل خطيئة أخلاقية ما زال الشعب السوداني يدفع ثمنها دمًا ودمارًا.
يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي:
"حين تعجز الدولة عن إقناع الناس بعدالة وجودها، تبدأ بالبحث عن شرعيتها في الخارج."
وهذا بالضبط ما يفعله الإخوان والبرهان اليوم؛ يعلّقون الأزمة على شماعات خارجية، ويربطون الخلاص منها بحلفاء خارجيين تجمعهم بهم مصالح وأيديولوجيات قديمة، وهم أنفسهم من دعموهم في انقلابهم الذي قوض الانتقال الديمقراطي وأشعل الشرارة الأولى للحرب.
إن من عاش تفاصيل ما قبل الحرب يعلم أن جذورها لم تكن خلافًا عابرًا بين جنرالين، ولا مؤامرة خارجية تطمع في ذهب السودان، بل كانت - ولا تزال - محاولة منظمة لإجهاض التحول الديمقراطي، وإعادة عقارب الزمن إلى ما قبل الثورة.
تلك هي الحقيقة التي لا تُقال، لأن الاعتراف بها يعني الإقرار بالمسؤولية عما جرى.
وهكذا، فإن حرب السودان ليست مجرد صراع على السلطة بين جنرالين، ولا حربًا أشعلها الخارج، بل معركة فاصلة بين مشروع يسعى لإحياء دولة دينية تجاوزها الزمن، وآخر يحاول انتشال البلاد نحو أفق مدني ديمقراطي يليق بتضحيات شعبها.
إنها حرب على مستقبل السودان ذاته، بين من يريد إعادة التاريخ إلى عهوده المظلمة، ومن يسعى إلى فتح نافذة جديدة يتسلّل منها ضوء العالم الحرّ الوضِيّ .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة