يُعد السودان ثالث أكبر دولة إفريقية من حيث المساحة، وتكمن أهميته في موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وعلى ضفاف نهر النيل، كما يتميّز بتنوعهِ القبلي والعرقي واللغوي، وثرائه الكبير والضخم بالموارد الطبيعية المتعددة.
غير أن هذه المقومات، التي يفترض أن تكون مصدر قوة واستقرار، تحوّلت عناصر ضعف بفعل غياب التنمية العادلة والمقبولة على الديمغرافية السودانية، والذي قاد بدورهِ إلى حدوث الانقسامات الداخلية.
جذور الصراع في دارفور: من التهميش إلى التسلّح
تمثل دارفور نقطة البداية لفهم تعقيد الصراع السوداني المعاصر، فالإقليم الذي تقطنه قبائل عربية وأفريقية، يعيش منذ عقود صراعات متشابكة على الموارد والهوية.
ورغم أن جميع القبائل هناك تدين بالإسلام السني، فإن العرق ظل عاملًا أقوى في تأجيج الصراعات، خصوصًا في ظل شحّ الأمطار وتقلّص الأراضي الصالحة للرعي والزراعة. ومع ازدياد موجات النزوح من دول الجوار، تفاقم التنافس القبلي، وبدأت ملامح الانقسام العرقي تتبلور. وفي عام 2002 ظهرت حركة جيش تحرير دارفور، متأثرة بخلفية الصراع بين الجنوب والشمال السوداني، مطالبةً بإنهاء التهميش السياسي والتنموي، لتتحول دارفور لاحقًا إلى مسرحٍ لصراعاتٍ دموية ذات أبعاد محلية وإقليمية ودولية.
من الجنجاويد إلى قوات الدعم السريع
في مواجهة تمرد دارفور، لجأ نظام عمر البشير إلى تشكيل ميليشيات الجنجاويد بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، التي تحولت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع. كانت هذه القوات خارج إطار الجيش النظامي، وحاول البشير ضمها لاحقًا للجيش، وقد لعبت لاحقًا دورًا بارزًا في إسقاط نظام البشير عام 2019، ثم أصبحت جزءًا من المجلس العسكري الانتقالي بقيادة عبد الفتاح البرهان.
غير أن التحالف بين الرجلين "حميدتي والبرهان" لم يدم طويلًا؛ فمع مرور الوقت، تحوّل التعاون إلى صراعٍ على النفوذ، وبدأت الخلافات بينهما تتعمّق حول توزيع السلطة ومستقبل الدولة.
الخلفية القبلية والعربية لقوات الدعم السريع
يستمد حميدتي قوته من قاعدة اجتماعية تنتمي في معظمها إلى القبائل العربية في غرب السودان، وعلى رأسها الرزيقات (فرع المحاميد) -قبيلته الأصلية- إلى جانب المهرية، والمعاليا، والبقارة، وبعض فروع أولاد زيد. تاريخيًا، كانت هذه القبائل تمارس الرعي والتنقل، ودخلت في صراعات متكررة مع القبائل ذات الأصول الأفريقية مثل الفور والمساليت والزغاوة، لا سيما بعد موجات الجفاف في الثمانينات.
وقد استغل نظام البشير هذا الانقسام بين العرب و"الزرقة- تستخدم مرادفًا للقبائل الأفريقية عموماً" لتقوية نفوذه في دارفور، فغذّى الصراع القبلي وسلّح الميليشيات، ما جعل العنف يتخذ طابعًا عرقيًا واضحًا.
هل الصراع يمثل الجانب العربي ضد الأفريقي أم هو صراع المركز والهامش
إن الصورة في السودان أكثر تعقيدًا بين الصراع العرقي مقابل المركز والهامش. فمن حيث البنية الاجتماعية، تتمتع قوات الدعم السريع بتركيبة قبلية يغلب عليها الطابع العربي، ما جعلها تُرى في بعض مناطق دارفور وكردفان كقوة تمثل العرب في مواجهة الجيش الذي يضم خليطًا من الأعراق. أما من حيث الخطاب السياسي، فقد حاول حميدتي كسر هذه الصورة عبر تبنّي خطاب وطني جامع، مستقطبًا بعض المجموعات غير العربية في الخرطوم ووسط السودان، مستفيدًا من استياء الناس تجاه المؤسسة العسكرية التقليدية ومستويات التنمية. وعلى مستوى النظرة الشعبية، حقيقةً، الوعي الجمعي السوداني يرى قوات الدعم السريع غالبًا كقوة عربية دارفورية مسلحة.
رغم أن الجذور القبلية ما زالت حاضرة بقوة، فإن الحرب الحالية تجاوزت الانقسامات العرقية لتصبح صراعًا على السلطة والثروة والهوية. فمنذ سقوط البشير، تحوّل التنافس بين البرهان وحميدتي إلى مواجهة بين المركز والهامش؛ حيث يرى حميدتي وأنصاره أن النخبة النيلية في الخرطوم احتكرت الحكم لعقود، بينما يسعى البرهان إلى الحفاظ على نفوذ المؤسسة العسكرية بوصفها "حامية الدولة". ولقد كان بينهما فرصة للتحول السياسي، حيث وُقّع الاتفاق الإطاري بين البرهان وحميدتي وقوى الحرية والتغيير، بهدف تحقيق انتقال ديمقراطي ودمج قوات الدعم السريع في الجيش. لكن الخلافات حول مدة الدمج وموقع الإسلاميين داخل المؤسسة العسكرية أطاحت بالاتفاق قبل أن يُنفذ. ومع اقتراب موعد إعلان الحكومة الانتقالية في أبريل 2023، انفجرت التوترات بين الطرفين، ليعود السودان إلى نقطة البداية، وتتحول الخلافات السياسية إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
لم يقتصر الصراع على الداخل، بل تمدّد إلى الساحة الإقليمية والدولية، فحميدتي يسعى لإقناع المجتمع الدولي بأنه يقف مع التحول المدني ضد "عسكرة الدولة" وأنهٌ مع العدالة الديمغرافية التنموية، بينما يحاول البرهان كسب دعم واشنطن ومصر عبر تصوير خصمه كحليف لروسيا وأثيوبيا، خاصة في ظلّ الخلافات حول سد النهضة وتأثيره على الأمن المائي المصري. وهكذا، أصبح الصراع السوداني مسرحًا لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية، لا مجرد نزاع داخلي على السلطة.
ختامًا، إن العروبة في السودان ليست عرقًا خالصًا، بل ثقافة وهوية جامعة، والمشكلة الحقيقية لا تكمن في التنوع، بل في غياب العدالة والتنمية لهذا التنوع داخل في مختلف جغرافية وديمغرافية السودان. ويبقى مستقبل السودان معلقًا بين خيارين لا يقلّ أحدهما خطورة عن الآخر، كونفدرالية هشّة تحاول جمع الأقاليم المتباعدة في إطارٍ واحد، أو تقسيمٍ فعليّ يكرّس ما فرضته الحرب من حدودٍ أمر واقع. ففي الأفق تتقاطع الرغبات الداخلية بالمصالح الإقليمية والدولية، ويبدو أن الخرائط لم تقل كلمتها الأخيرة بعد؛ فربما يرسم القادمون من ركام الدخان وطنًا جديدًا… أو يكتفون بذكراه على الأطلس القديم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة