تُعدّ المبادرات الثلاث عشرة التي أطلقتها حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة ضمن استراتيجية الهوية الوطنية نموذجًا متقدّمًا في تحويل الرؤى الفكرية إلى واقع ملموس، وفي جعل الهوية مشروعًا حيويًا يتفاعل مع الإنسان والمجتمع والمؤسسات.
فهذه المبادرات لا تقتصر على حماية الرموز الثقافية أو تعزيز الشعور الوجداني، بل تُجسّد مفهوم «الهوية الحيّة» التي تنبض في التعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد، لتصبح جزءًا من السلوك اليومي ومن منظومة التنمية الوطنية الشاملة.
انطلقت هذه المبادرات من رؤية شاملة تتوزع على سبعة أبعاد رئيسة تشمل التعليم، الثقافة، الأسرة، المجتمع، الدين، الإعلام، والاقتصاد. ويُظهر هذا التنوع أن الإمارات تتعامل مع الهوية بوصفها مكوّنًا متعدد الأبعاد يمسّ كل مجالات الحياة، ويهدف إلى ترسيخ الانتماء لا عبر الخطاب فقط، بل من خلال التجربة والممارسة والمشاركة.
في القطاع التعليمي، تم إطلاق مبادرة دمج الهوية الوطنية في المناهج الدراسية لتغرس القيم الوطنية في وعي الطلبة منذ المراحل الأولى للتعليم، إلى جانب تطوير دليل الأنشطة الثقافية اللاصفية الذي يعزز التعلم القيمي والتجربة الثقافية داخل المدارس. كما أُطلقت مبادرات شبابية مثل مجلس شباب الثقافة والهوية الوطنية ومبادرة «نحن عيال زايد» التي تُعزّز روح الفخر بالوطن، وتغرس قيم القيادة والقدوة والانتماء في نفوس الجيل الجديد.
وفي المجال الثقافي والإعلامي، جاءت مبادرات نوعية تحمل طابعًا ابتكاريًا، من أبرزها مختبر «رمسة» الذي يسعى إلى توثيق اللهجة الإماراتية كجزء من الهوية اللغوية الحية، إلى جانب سياسة المحتوى الإعلامي الوطني وقواعد السلوك لصانعي المحتوى التي تهدف إلى توجيه الإنتاج الإعلامي نحو تعزيز القيم الوطنية والحدّ من تشويه الرموز الثقافية. كما برز قانون التراث الثقافي الذي يحمي الموروث المادي والمعنوي ويحوّله إلى مورد اقتصادي وثقافي مستدام، بالإضافة إلى البرنامج الوطني للسياحة الإماراتية الذي يربط الهوية بالاقتصاد والضيافة الأصيلة، بما يعكس الوجه الإنساني والحضاري للدولة.
أما في جانب الحوكمة والتنسيق المؤسسي، فقد أنشئت لجنة الهوية الوطنية لتوحيد الجهود بين الجهات الاتحادية والمحلية وضمان تكامل السياسات الوطنية، فيما تم تطوير مؤشر الهوية الوطنية كأداة علمية لقياس مستويات المعرفة والانتماء والممارسة، بما يسمح برصد التغيرات المجتمعية وتقييم أثر البرامج والمبادرات بصورة مستمرة.
إن هذه المبادرات تعبّر عن تحوّل نوعي في فهم الهوية الوطنية، حيث لم تعد مقتصرة على تعزيز الانتماء الوجداني، بل أصبحت قوة ناعمة فاعلة في التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية. فالرؤية الإماراتية ترى أن الهوية لا تُصان بالانعزال أو بالتقوقع، بل بالانخراط الواعي في الحداثة، عبر تحويل القيم إلى مشاريع مؤسسية وسياسات تعليمية وثقافية وإعلامية متجددة.
وبهذا المعنى، تُجسّد الإمارات نموذجًا فريدًا في إدارة الهوية بوصفها مشروعًا تفاعليًا مستمرًا يعيش في المدرسة والأسرة ووسائل الإعلام، ويشمل المواطنين والمقيمين على السواء. فالهوية الإماراتية، كما تُجسّدها هذه المبادرات، ليست جدارًا يحمي الماضي فحسب، بل جسرًا يبني المستقبل، يجعل من الانتماء طاقة إنتاج وإبداع، ومن الثقافة قوة دفع نحو مجتمع أكثر تماسكًا، ووعيًا، وقدرةً على مواكبة العصر دون أن يفقد خصوصيته الأصيلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة