جدل فلسفي ينهي حياة جامعية.. الانتحار يتحول إلى ظاهرة في العراق
تتذكر والدة الفتاة ابنتها وتفوقها الدراسي خاصة أنها عرفت بالصبر على المحن وهو ما يترك العائلة في حيرة دون وجود أسباب تدفعها للانتحار
عند مدخل باب غرفتها علقت لوحة فنية طغى عليها اللون الأخضر وتوزعت الأشجار على جوانبها، محتضنة فتاة جالسة قرب نهر تتطلع إلى السماء في تأمل غير خالي من القلق والخوف من الغد.
أخبرتنا والدتها أنها كانت تقضي ساعات طوال أمام ذلك المشهد قبل أن تقرر ابنتها الانتحار بعقار مضاد للحساسية تناولت منه أكثر من 40 حبة.
تسرد أم رحاب، وقائع تلك الليلة، حين وجدت ابنتها ذات الـ20 ربيعا ممددة على فراشها تنازع الحياة بعد أن شحت أنفاسها شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت جثة هامدة مع وصولهما إلى مستشفى قريب من دار الضحية.
وتتذكر والدة الفتاة أيام ابنتها البكر وتفوقها الدراسي وحسن سلوكها خاصة أنها عرفت بالكياسة والهدوء والصبر على المحن، وهو ما يترك العائلة في حيرة دون وجود أسباب تدفع الشابة العشرينية إلى الانتحار.
وقبل أيام من حادثة الانتحار، كانت رحاب تخوض في جدل فلسفي مع شقيقها الأصغر بشأن الوجود والكون، تطور إلى شجار وصفعة على وجهها، وسرعان ما تدخلت الأم لفض النزاع وتوبيخ ابنها على ذلك التصرف.
رحاب فتاة جامعية في كلية الإدارة والاقتصاد، ابنة شهيد سقط في تفجير استهدف سوقا شعبية شرقي بغداد قبل 10 أعوام.
تقول والدتها: "بدأت أفكر في اللحاق بها، ولكن الخوف من الله يدفعني إلى التراجع".
وفي حالة أخرى، يندفع رائد وهو شاب ثلاثيني، إلى أعلى سطح منزله ليضرم النار في نفسه بعد أن عجز عن توفير لقمة العيش لزوجته وأطفاله الـ3، كما روت لنا الباحثة الاجتماعية سهى عبدالله.
وتفتح عبدالله، في حديث لـ"العين الاخبارية"، ملفات وقصص حوادث انتحار، وأخرى لحالات فاشلة، اطلعت عليها بحكم عملها من الدوائر المجتمعية التي تعني بذلك الأمر.
وتبين الباحثة الاجتماعية، أن حالات الانتحار في العراق شهدت في السنوات الـ3 الأخيرة تصاعداً يهدد بسلامة المجتمع وينذر بأمراض نفسية عالية المستوى والخطورة.
وتشير إلى أن أغلب تلك الحوادث تقع بسبب 3 عوامل رئيسية، وهي وضع المعيشة والعادات والتقاليد وفقدان الأمل في الغد، جراء الأوضاع المضطربة التي يعيشها العراق منذ أمد طويل.
وفي تقييم صدر مؤخرا عن وزارة التخطيط العراقية، بدعم من اليونيسف، والبنك الدولي، ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية البشرية، وُجد أن 4.5 مليون آخرين من العراقيين (أي ما يقارب 11.7%) يواجهون خطر الوقوع تحت خط الفقر نتيجة التأثير الاجتماعي الاقتصادي لجائحة كورونا.
وستؤدي هذه الزيادة الحادة إلى رفع معدل الفقر الوطني من 20% عام 2018 إلى 31.7%, وزيادة العدد الإجمالي للفقراء إلى 11.4.
ويعزو أحمد العنزي، رئيس مؤسسة للدراسات البحثية التي تعنى بالسياسة والمجتمع، أن بعض من عمليات الانتحار، ترتبط بأسباب سياسية داخلية وخارجية، عبر منظمات تعمل تحت عناوين مختلفة تحت غطاء التبادل الثقافي والتلاقح الفكري بتشجيع شرائح كبيرة خاصة الشباب منهم على التفكير في الانتحار من خلال زجهم في أحداث وتصورات معقدة تفقدهم الأمل وتطرح خيار الموت القسري بديلا ومهربا عن ذلك.
ويلفت العنزي في حديث لـ"العين الاخبارية"، أن "الأوضاع المتأزمة في العراق والاحباط الذي أصاب العراقيين ما بعد 2003، دفع إلى ارتفاع تلك المعدلات وتزايدها باطراد عام بعد عام".
ووفق دراسة أمريكية أجراها مركز جالوب للدراسات الدولية حول نسب الانتحار وأسبابه، حل العراق رابعا عالميا عام 2018 بعد كل من تشاد والنيجر وسيراليون، وهو ما يفسر تقديم مقترح من وزارة الداخلية، العام الماضي، بتشييد سياجات أمنية محكمة بطول مترين على جسور العاصمة لمنع حالات الانتحار.
وسجلت الدوائر والمنظمات المعنية 519 حالة انتحار خلال 2019، وبحسب آخر الإحصائيات التي أعلنت عنها مفوضية حقوق الإنسان العراقية في بغداد، أكدت ارتفاع تلك المعدلات خلال الأعوام الـ3 الأخيرة.
العميد غالب العطية مدير الشرطة المجتمعية في العراق، يؤكد أن حالات الانتحار في العراق تتجاوز الـ300 حالة بدءاً من مطلع العام الحالي حتى 10 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ويتقاسمها الذكور والإناث بنسب متقاربة.
ويؤكد العطية، في حديث لـ"العين الاخبارية"، أن الكثير من الحالات التي سجلت كحادثة انتحار نجد فيما بعد أنها جرائم قتل عمد من قبل ذوي الضحية بسبب سلوكيات تتعلق بالشرف والأخلاق أو كما يسمى بـ"غسل العار". ويضيف: "لقد أحبطنا خلال هذا العام نحو 30 عملية انتحار".
وتتصدر محافظات ذي قار وديالي وصلاح الدين في عدد حالات الانتحار، والتي يبوب أغلبها تحت غلاء المعشية وعدم توافر فرص العمل بحسب العطية.
وينوه إلى أن بعض حوادث الانتحار، تتعلق بجرائم الابتزاز الإلكتروني جراء التعامل السيء من البعض لمواقع التواصل الاجتماعي والتي تنتهي غالبا بتهديد الضحايا بالفضح وتشويه سمعتهم، فضلاً عن حالات أخرى تتعلق بتعاطي الكحول والمخدرات التي انتشرت بين اوساط الشباب منذ سنوات.