"سوريا كلها اليوم منكوبة".. تضامن ومبادرات تطوعية لتخفيف آثار الزلزال (خاص)
وسط درجات حرارة متدنية تقارب الصفر مئوية، وظلام دامس لا تكسر حدته سوى إضاءة بسيطة نتيجة انقطاع الكهرباء، يزدحم أحد أزقة حي المهاجرين في دمشق بمئات المتطوعين والأهالي على مدار الساعة.
يأتي ذلك لتأمين مختلف أنواع التبرعات للمدن والمناطق السورية التي طالها الزلزال المدمر فجر الإثنين الماضي.
ينقسم متطوعو فريق "عقمها" الطبي إلى أشخاص يستقبلون أكياساً تحتوي ملابس شتوية ومواد غذائية وحليباً للأطفال وأدوية وغيرها من الأمور الضرورية، وآخرون يعملون على فرزها وترتيبها، وفريق ثالث يوضبها ضمن مجموعات، أو يؤمن وضعها ضمن السيارات الكبيرة التي ستنقلها تباعاً إلى محافظات حلب واللاذقية وجبلة بشكل أساسي.
بوجه وعيون متعبة، يتحدث عمر بوظو (26 سنة)، وهو مؤسس ومدير الفريق، لـ"العين الإخبارية"، عن تفاعل أهلي "كبير جداً": "على مدار الساعة يمتلئ مقر الجمعية هنا، والشارع المجاور بأكمله بأشخاص وعائلات يحضرون كل ما يمكن أن يتوفر لديهم من أغراض. كنا نخطط في اليوم الأول لإرسال سيارة أدوية واحدة فقط، واليوم لا نهدأ لحظة واحدة، ونعمل على مدار 24 ساعة".
بالكاد يتمكن الشاب من إكمال عبارته قبل أن ينصرف لتنظيم مهمة ما، أو الإجابة على سؤال أحد أعضاء الفريق.
يقول: "حجم العمل كبير جداً. لم ننم منذ يومين. أشعر وكأننا في كابوس طويل، لا أعرف متى سنستيقظ منه".
وينوّه إلى أثر كبير لما يقوم به الفريق الذي تأسس عام 2020 لمواجهة انتشار فيروس كورونا، وكل الفرق التطوعية التي نشطت في مختلف المحافظات، في تخفيف آثار الكارثة على آلاف العائلات المنكوبة، والتي تحتاج اليوم إلى أبسط المقومات بعد دمار منازلها وتشرّدها وخساراتها الكبيرة.
وبلغت حصيلة ضحايا الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا بشدة 7.8 على مقياس ريختر، أكثر من 2900 حالة وفاة و5000 إصابة في عموم سوريا، والعدد مرشح للازدياد خاصة في المحافظات الأكثر تضرراً وتشمل حلب وإدلب واللاذقية وحماة. وتتوقع منظمة الصحة العالمية تضرر 23 مليون شخص في كل من تركيا وسوريا، بينهم 1.4 مليون طفل.
مئات المبادرات
على مدار اليومين الماضيين تحولت سوريا بأكملها إلى ما يشبه "خلية نحل" أو لنقل خلايا نحل في كل محافظة ومدينة، بهدف تأمين مستلزمات للخارجين من تحت الأنقاض، أو أولئك الذين فقدوا منازلهم أو يتخوفون من العودة إليها خشية تصدع جدرانها، ففضلوا اللجوء إلى مراكز الإيواء أو حتى افترشوا الحدائق والشوارع.
ولم يتوقف ذلك على الأنشطة التطوعية، فمواقع التواصل الاجتماعي أيضاً، خاصة فيسبوك وإنستغرام، باتت أشبه بغرف عمليات تنتشر فيها كل أخبار التبرعات والاحتياجات على مختلف أنواعها.
وفي مدينة جرمانا الواقعة في ضواحي دمشق الشرقية، فتح "ملتقى نيسان الثقافي" أبوابه يوم الأربعاء لاستقبال التبرعات أيضاً بالتعاون مع فريق "عقمها"، وخلال الدقائق الأولى امتلأ مركز الملتقى المكون من 3 غرف متجاورة بعشرات الأشخاص القادمين من كل المناطق القريبة.
"رغم التعب واستنفاد الطاقة وحتى المقدرة المادية، تفاجأنا اليوم بكميات تبرعات كبيرة جداً. أرسلنا أول سيارة وبانتظار إرسال السيارة التالية"، تتحدث سلمى الصياد المسؤولة عن حملة التبرعات من فريق الملتقى لـ"العين الإخبارية".
تشير السيدة الخمسينية إلى مواقف لا يمكن أن تنساها، كأن يتبرع شخص بقطعة ملابس أو غطاء شتوي، أو تعطي سيدة ما مبلغاً صغيراً للغاية، وهو كل ما يمكنها أن تساهم به.
وتضيف: "الجميع شعر اليوم بتضامن مع ضحايا هذه الكارثة، وبمسؤولية ورغبة في العطاء. السوريون دائماً قادرون على الوقوف إلى جانب بعضهم، مهما كانت قسوة الظروف".
على عجل، تدخل سيدتان تحملان أكياساً صغيرة، وتضعانها مع بقية الأغراض الجاهزة للتحميل.
تشير إحداهما إلى أنها أحضرت من منزلها قطع ملابس شتوية، وبطانية، هي ما استطاعت تأمينه.
"إذا لم نقف إلى جانب بعضنا البعض من سيفعل ذلك؟"، هكذا قالت قبل أن تغادر.
"فيه ناس طيبة بالبلد"
إلى جانب التبرعات، التفتت مؤسسة "سماعة حكيم" الطبية غير الحكومية في دمشق، ومنذ الساعات الأولى لحدوث الزلزال، إلى أهمية توافر الكوادر الطبية في المناطق المنكوبة، نظراً لتوقع الحاجة الماسة إليها خاصة خلال العمل على إخراج الأشخاص من تحت الأنقاض، فأطلقت عدداً من المبادرات الهادفة لتأمين ما يمكن من الاحتياجات الطبية المختلفة، كما يقول مؤسسها الطبيب حسين نجار، في حديث إلى "العين الإخبارية".
"نشرنا استبياناً نطلب فيه أطباء متطوعين، فحصلنا فوراً على مئات الاستجابات، واستطعنا تأمين عدد منهم إلى المناطق المتضررة للمساعدة في مختلف الاحتياجات الطبية"، يقول شارحاً.
ويتحدث أيضاً عن عمل المؤسسة على تأمين عدد من الآليات المتخصصة في إزالة الأنقاض ورفعها، مع ما يلزمها من محروقات، وهو أمر ليس بالسهل في سوريا التي تعيش أزمة حادة بما يخص المشتقات النفطية منذ أكثر من شهرين.
وستعمل "سماعة حكيم" أيضاً في اليومين المقبلين على إطلاق تطبيق إلكتروني باسم "كفو"، يهدف لربط المتبرعين بالحالات التي تحتاج مختلف أنواع المساعدات، بما يسهل عملية التبرع وضمان موثوقيتها وسرعتها في الوقت ذاته.
"منذ أطلقنا أول نداء بعد ساعات من الزلزال الكارثي، ونحن نتلقى مئات المساهمات التي لم نكن نتوقعها. يتصل بنا أشخاص يخبرونا عن قدرتهم على قيادة أي نوع من المركبات، وجاهزيتهم للتحرك في أي وقت. تبرعت سيدة على سبيل المثال بعشرين لتراً من المحروقات لتسهيل تحرّك آليات الإنقاذ، ولعلها كمية صغيرة جداً مقارنة بما يمكن أن تحتاجه سيارات كبيرة كهذه، لكن هذا يؤكد لي أن الأشخاص الطيبين ما زالوا كثراً وقادرين على العطاء"، يقول الطبيب بصوت يملؤه التأثر.
أهاتف منذ قليل إحدى صديقاتي في مدينة اللاذقية. تخبرني بأنها بالكاد تجد متسعاً من الوقت لالتقاط أنفاسها. الكارثة حلت بمدينتها، وتحاول هي ومجموعة من المتطوعين والمتطوعات مساعدة من لجأوا إلى مراكز الإيواء الجماعية، وتستقبل الكثير من التبرعات التي تصل على مدار الساعة من كل أنحاء سوريا. "لم أرَ من قبل هذا المستوى من التعاضد. سوريا كلها اليوم منكوبة، وأقل ما يمكننا القيام به هو الوقوف إلى جانب بعضنا البعض".