مواجهة "داعش".. تحدي الأموال والمقاتلين
التساؤلات بخصوص أموال «داعش» ومقاتليهم مستلهمة من واقع التنظيمات الإرهابية التي لديها قدرة على التشكل وفق الظروف التي تمر بها.
لم ينقطع الحديث عن مقاتلي «داعش» ولا أموالهم التي جمعوها على مدار 5 سنوات كاملة هي عمر «التنظيم» الذي سيطر على ثلث الأراضي العراقية ونحو نصف الأراضي السورية، في ظل قرب إعلان تحرير آخر جيب له بمدينة الباغوز السورية شرق نهر الفرات.
احتمالية عودة تنظيم داعش للظهور من جديد شكلت أحد أهم الإشكاليات المثارة على الساحة، لكن غابت عن النقاشات القراءة الدقيقة لشكل هذه العودة أو مكانها؟ وعما إذا كانت تماثل إمكانية لظهور «التنظيم» الأول عام 2014، بعد نشر عدة تقارير معلوماتية تفيد بنقل المئات من الدواعش لجهة غير معلومة.
الأمر نفسه أثير بشأن الأموال التي كان يحتفظ بها التنظيم في آخر جيب له، والتي قدرت بنحو 40 طنا من الذهب الخام، فضلا عن مئات الملايين من الدولارات التي كونها داعش من عمليات السطو والسرقة وبيع الآثار والنفط.
وتُشير أغلب التقارير الأمنية إلى انضمام 4 آلاف أوروبي لتنظيم «داعش» على مدار السنوات الخمس التي سيطر فيها على مدينتي الرقة والموصل.
وقد قامت القوات الأمريكية حسب ما قالة المرصد السوري لحقوق الإنسان بنقل 440 مقاتلا للتنظيم من مدينة الباغوز إلى خارجها على دفعتين الأولى شملت 240 مقاتلا والثانية 200 مقاتل، فضلًا عن عشرات الشاحنات التي دخلت لجيب «داعش» الأخير لنقل مقاتليهم الذين لم تُقدر أعدادهم على وجه التحديد، ولم تُعرف على وجه الدقة الجهة التي نقلوا إليها ولا حجم الأموال التي نقلها هؤلاء المتطرفين.
التساؤلات التي يطرحها المراقبون بخصوص أموال «داعش» ومقاتليهم مستلهمة من واقع التنظيمات الإرهابية التي لديها قدرة على التشكل وفق الظروف السياسية والعسكرية التي تمر بها، وأهم هذه الأمثلة تتجسد في تنظيم قاعدة الجهاد، التي كانت بمثابة الرحم المستأجرة التي نشأ بداخلها تنظيم «داعش» الإرهابي، بخلاف التنظيمات المتطرفة التي نشئت في أوروبا خلال العقود الثلاثة الماضية.
وقد كان تنظيم قاعدة الجهاد مكون رئيسي لتنظيم «داعش» فيما بعد، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية أعلنت هزيمتها للتنظيم من قبل وضربت مراكز قواه في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية إلا أنه عاد من جديد ولكن بصورة بدت أكثر تتطرفًا مما كانت عليه قاعدة الجهاد.
احتمالات عودة «داعش» بين الحقيقة والوهم
ترجيحات عودة تنظيم «داعش» للحياة بعد القضاء عليه أمنيًا وعسكريًا ترتبط بـ3 محاور يمكن تفصيل الحديث حولهم مع استحضار شكلين للتحرير؛ أحدهما طرحه رئيس الوزراء العراقي حيدر البغدادي في 9 ديسمبر عام 2017؛ والآخر متوقع في العام الجاري 2019 على يد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فأيهما يمكن فهمه على أنه تحرر كامل ونهائي من «داعش».
يمكن فهم تحرير الجيب الأخير لتنظيم «داعش» عبر عدة نقاط كفيلة بقراءة الوضع الأمني بعد إعلان التحرر الكامل، وقد تكون هذه المعلومات مفيدة في فهم المشهد الأمني للتنظيم والذي بات لافتًا بعد ما أثير حول جدوى عملية التحرير وتأخرها.
أولًا: اقتصرت فكرة المواجهة على الشكل الأمني والعسكري دون سواهما، ففي الوقت الذي قامت فيه الولايات المتحدة الأمريكية بمواجهة «داعش» عبر تحالف دولي غضت الطرف عن تنظيمات متطرفة انتشرت في المنطقة العربية بعد عام 2011 وهو ما عُرف بثورات الربيع العربي.
وخطورة المواجهة الأمنية والعسكرية فقط يمكن فهمها في سياقين، أولهما أن المواجهة أخذت صبغة أمنية وعسكرية فقط، والأمر الثاني أنه تم فصل التنظيمات المتطرفة عن بعضها بعضا رغم وحدة الهدف والمنهج، واحتضنت بعض القوى الدولية تيارات إسلامية كانت حاضنة لتنظيم «داعش» وكان جسرًا وصوتا لها، وربما هذه الصورة دفعت الآلاف من الأوروبيين للانضمام لــ«داعش».
ونذكر هنا على وجه التحديد ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية التي شكلت التحالف الدولي لمواجهة «داعش» مع عشرات الدول، بينما دعمت وجود جماعة الإخوان «الإرهابية» ومكنت لها سياسيًا، وهي تُدرك العلاقة الفكرية والتنظيمية المباشرة وغير المباشرة بين التنظيميين، حتى أنه أصبح سببًا في تأخر المواجهة فضلًا عن عدم جدواها.
ثانيًا: لا تزال البيئة التي نشأ فيها تنظيم «داعش» قائمة، وضع دولي وإقليمي مضطرب يجمعه خلاف نجح التنظيم المتطرف اللعب على وتره.
وهنا لا بد من موقف راسخ وثابت يتبناه المجتمع الدولي لمواجهة «داعش» يكون قائمًا على خلق بيئة سياسية مستقرة، خاصة وأن تنظيمات التطرف غالبًا ما تختار البيئة التي يسودها الاضطراب والفوضى حسب ما شرعت في رسم هذه الصورة في كتاب «إدارة التوحش» لأبو بكر الناجي، والذي يُعد دستورًا لعمل هذه التنظيمات المتطرفة.
وهنا لا بد من الانتباه لطبيعة عمل التنظيمات المتطرفة القائمة على صناعة بيئة مضطربة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وأن تتم صناعة هذه البيئة بالتوازي مع المواجهة الأمنية والعسكرية للقضاء على هذه التنظيمات حتى نضمن عدم عودتها من جديد.
ثالثًا: نقل مقاتلي التنظيم وأمرائه لجهة غير معلومة مع الأموال التي كانت بحوزتهم؛ الأموال والمقاتلون هما عصب أي تنظيم متطرف، فغابت الشفافية عن تقارير منشورة في هذا السياق.
تظل رهانات القضاء على تنظيم «داعش» بشكل كامل مرتبطة بتجفيف منابع التنظيم المتطرف والمتمثلة في الأموال ووسائل التجنيد مع محاصرة المقاتلين والإعلان بشكل رسمي عن أعدادهم في كل مرحلة من مراحل المواجهة، وعما تبقى منهم وعما تم إحرازه في المعركة الدائرة للقضاء على أمرائه وقادته.
وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من سوريا في شهر أبريل المقبل مع بقاء مائتي جندي أمريكي فقط، دون أن تعرض رؤيتها أو رؤية التحالف الدولي لمرحلة ما بعد «داعش»، وهو ما يشي بغياب تصورات المواجهة الفكرية بعد دحر «التنظيم» أمنيًا، وهو ما يُشكل خطرا جديدًا يلوح في الأفق حتى بعد القضاء عليه.
لا مواجهة بدون الأموال والمقاتلين
لا يمكن تصور مواجهة «داعش» أو إعلان هزيمتها حتى للمرة الثانية بعد الإعلان السابق في 9 ديسمبر عام 2017 على لسان رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، بدون الإعلان مصادرة المال الذي حصل عليه «التنظيم» من خلال السرقة والنهب، أو حتى الوصول لرؤوس التنظيم التي لا يزال عدد كبير منهم حرا طليقا ويعمل على العودة من جديد.
بقاء جيوب للتنظيم حتى ولو تم تحرير كامل الأراضي التي كان يُسيطر عليها بعدما سبق وأعلن قيام دولته المزعومة عليها في 29 يونيو من عام 2014 يُعزز من فرص عودته، حتى لو سلمنا بتحرير الأرض من وجوده، فقد يكون تحرير الأرض وتُشكل المجموعات المقاتلة التابعة للتنظيم في شكل خلايا منفردة أو متجمعة هو الأخطر، خاصة وأن من سمات هذه المجموعات أنها غير مرئية، فضلًا عن انتشارها السرطاني بخلاف الشكل الكلاسيكي لـ«داعش» المتطرف عندما احتل أرضًا فكان من السهل مواجهته عبر أماكن تمركزه.
وهنا يوجد «التنظيم» في أكثر من بقعة ولكن بشكل غير مرئي، فطالما بقت الأموال في حوزته فضلًا عن مقاتليه، فالخطر لا يزال قائمًا ولا نبالغ إذا قلنا إن الخطر أصبح أكبر مما كان عليه، وقد يرجح ذلك خروج تنظيم ثالث يحمل صفات جينية من تنظيم قاعدة الجهاد وتنظيم داعش ولكنه سوف يكون أكثر تطرفًا من التنظيمين.
خطورة التنظيم في قدرته على التشكل والعمل تحت ضغط أمني في ظل وجود الأموال والمقاتلين وبخاصة إمراء القتال، فهو يُطوع هذه القدرة في تحريك خلاياه لضرب أهداف بعيدة وقريبة في الوقت نفسه، وهذه خطورة مركبة لابد من التعامل معها بنوع من الجدية بحيث يتم التعامل مع «داعش» أمنيًا وعسكريًا، وأن يكون ذلك بالتوازي مع المواجهة الفكرية، بحيث يكون هناك حائل بين استقطاب أعداد جديدة من الشباب للتنظيم مع محاولة التأثير مع بعض المقاتلين المغرر بهم، وألا تكون المواجهة الفكرية بديلًا للمواجهة الأمنية والعسكرية بل مكملًا لها، وألا يكون ذلك بعيدًا عن هدف أهم يتمثل في الوصول لأموال التنظيم.
لا يمكن التشكيك في مواجهة تنظيم «داعش»، ولا في النتائج التي تحققت على مدار 5 سنوات كاملة منذ أن أعلن «التنظيم» قيام دولته المزعومة في صيف عام 2014 وحتى الإعلان المتوقع لتحرير كامل الأرض التي سبق وسيطر عليها في العام الجاري 2019، ولكن علينا أن نعترف أن الملمح الرئيسي لهذه المواجهة كان عبر الجو فقط، وبين الوقت والآخر كانت تحدث بعض العمليات البرية كإنزال جوي بهدف القبض على متطرفي «التنظيم» في منطقة ما، ولعل المواجهة بهذه الصور آخر الإعلان عن تحرير الأراضي التي سيطر عليها «داعش» 5 سنوات كاملة.
aXA6IDMuMTQyLjUzLjE1MSA= جزيرة ام اند امز