قام الواقع المفروض على الساحة السورية منذُ نهاية عامها الأول (2011م) على عدة تحالفات معقّدة بعد انقسام الساحة السورية؛ بين قوات حكومية وفصائل معارضة.
ازداد الأمر تعقيداً شيئاً فشيئاً بظهور (داعش)، ودخول التحالف الدولي على ساحة الصراع بشكلٍ مباشر، وما نتج عنه من تحوّل الفصائل الكردية التي كانت في البداية عبارةً عن تنظيمات متعددة، إلى كيانٍ جديدٍ متحالفٍ مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود التحالف الدولي، لتتأسس (قوات سورية الديمقراطية) برعايةٍ أمريكية مباشرة، وبهدف القضاء على (داعش)، لكنْ القضية التي ظلت شائكةً، والسؤال الذي تتعدد إجاباته: ماذا بعد داعش؟
بعد اندحار تنظيم (داعش) وإنهاء دولته المزعومة، تحولت (قسد) إلى مرحلةٍ جديدةٍ في بناء (الإدارة الذاتية) التي ظلت تنادي بالبقاء تحت راية سوريا تحت نظامٍ لا مركزيٍّ، وهو ما لا تعتدُّ به الحكومة السورية من جهة؛ إذ تعده انفصالاً وتقسيماً لسوريا برعايةٍ أمريكيّة، وما لا ترضاه (تركيا) التي ترى في ذلك محاولةً لإقامةِ كيانٍ رسميٍّ على حدودها ولأحزاب كردية تصنفها (أنقرة) على قائمة الإرهاب، ولعلها القضية الأبرز والملف الأهم الذي تتوحد فيه الرؤى بين (دمشق) و(أنقرة) اللتين تتبادلان العداء منذ اندلاع الأحداثِ في سوريا، وهذا الملف قد يؤكد الإرهاصات الدائرة في أروقة السياسة حول إمكانية التقارب السوري التركي، وقرب فتح القنوات السياسية المباشرة بين الجارتين.
وما جعل هذه القضية تطفو على السطح بقوةٍ في الفترة الأخيرة، تطور الأحداث السياسية على ساحة سيطرة (قسد) التي أقرَّت مؤخرا دستوراً لإدارتها الذاتية (عقد اجتماعي جديد)، وهذا ما حمل رسائل كثيرة؛ سارعت (دمشق) إلى رفضها لذلكَ، عادّةً الأمر إمعاناً في السياسة الانفصالية عن سوريا، كما سارعت (أنقرة) إلى الرد عليه برسائل أكثر قوة؛ من خلال شن ضرباتٍ جوية ومدفعية مكثفة طالت كلّ المواقع الحيوية والبنى التحتية لـ(قسد)، وإنْ لم تصرح تركيا بأنّ هذه الضربات رد أو رسائل مضادة لرفض ومنع هذا (العقد الاجتماعي) كما أطلقت عليه "قسد"، لكن التوقيت وشدة الضربات يوحيان بذلك إيحاءً إلى التصريح منه أقوى من التلميح.
أما الولايات المتحدة (الحليف المباشر لقسد) لم تتخذ أي إجراء؛ لا تصريحاً ولا تلميحاً على هذا الأمر، ولا سيّما في الرد على تلك الضربات التركيّة لحلفائها، فما هو موقع قسد من معادلة التحالف مع الولايات المتحدة؟
مما لا شكَّ فيه هو أنّ الولايات المتحدة من أقوى الأطراف الفاعلة على الأرض السورية، وهي العباءة التي تتحرك (قسد) في ظلها، إلا أنّ السياسة الأمريكية لا تقومُ على التحالف المُطلق؛ إذ إنها تسير وفق معادلة التوازن وتكامل الأوراق السياسية، وهو ما تؤكده الوقائع على الأرض.
فعلى الرغم من امتداد الصراع على كامل الأرض السورية وعلى مدى أكثر من عقدٍ إلا أنها تشهد أي اصطدامٍ بين السياسة الأمريكية والسياسة الروسية الحليف الأبرز لدمشق، كما لم تصطدم مع السياسة التركية، فأنقرة هي الحليف الأقوى للولايات المتحدة في حلف الناتو، والجيش التركي هو ثاني جيشٍ من حيث القوة في الحلف، وبناءً عليه فإنّ الولايات المتحدة لن تقطع شعرة معاوية التي أرستها كلٌّ من روسيا وأمريكا في التعاطي مع الملف السوري منذ بداية الأزمة، ولن تقطع حبل الود الذي يجمعها بتركيا ضمن حلف الناتو من أجل أوراق سياسية أقل حجماً، ثمّ إنَّ (قسد) بفعلها الأخير (صياغة عقد اجتماعي جديدٍ لمناطق سيطرتها) قد أمعنت في قطع وسائل اتصالها مع دمشق الفاترة أصلاً، وهو ما يعني أنّ روسيا في صف دمشق في هذا الملف من جهة، وتركيا ذات العلاقة الحسنة مع روسيا تقف موقف المعادي الشرس لكل ما من شأنه تقوية (قسد) من جهةٍ ثانيةٍ، والولايات المتحدة بما تفرضه الأوراق السياسية لن تفرط أو تخاطر بتركيا والتحالف معها ولا بالتوازن القائم بين واشنطن وموسكو من أجل أوراق سياسية أقل حجماً وقيمةً.
كل ذلكَ يجعل من موقف (قسد) أكثر خطورةً وأشد هشاشةً في هذه المعادلة المعقدة، لاسيّما وإنْ حدَثَ تقاربٌ وتفاهمٌ بين دمشق وأنقرة الذي باتَ قاب قوسين أو أدنى، وهذا ما يدع قسد تعيش إرهاصات التجربة الأفغانية مع الولايات المتحدة، فليس من المُستبعَدِ أنْ يحدَثَ مثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أي لحظةٍ أو ظرفٍ سياسيٍّ، ليكون موقع (قسد) في معادلة الأمريكان إنما هو موقع الورقة التي قد تُلعب وتحترق في أية لحظة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة