القدر الأكبر من الغباء جاء من نصيب قطر التي استثمرت أموالا طائلة في الجماعات السورية المسلحة وفتحت قناة الجزيرة لأشرسها وأكثرها إرهابا.
بعد ثماني سنوات من الحرب الأهلية الشاملة التي أدت إلى تدمير سوريا، وإعادتها قرنين من الزمان إلى الوراء؛ كيف يستطيع أي باحث في علم السياسة أن يضع توصيفاً دقيقاً للمشهد السوري؟ كيف يمكن تشخيص الحالة السورية الآن بصورة تنقل حقائق الواقع، وليس أحلام الطامحين والطامعين؟.. في الحقيقة المشهد ملتبس، ومربك أشد ما يكون الالتباس والإرباك، فقد تداخلت فيه جميع قوى الجغرافيا القريبة والبعيدة، وأوغلت فيه كل مفاعيل التاريخ وأمراضه، ودفع الإنسان السوري البسيط ثمناً يفوق الخيال، ولم يشف الطامحون والطامعون ومرضى التاريخ من التشفي في خصوم خيالية لم يواجهوها، لانعدام وجودها، وإنما انتقموا من الإنسان السوري البسيط، وحطموا حياته، وحياة أسرته، ومستقبلهما دون أن يكون له ذنب أو يقترف جرما.
المشهد الأخير في سوريا بعد نهاية كل المغامرات الإقليمية والدولية، وفشل محاولات تغيير النظام، أو إسقاط الدولة وتفكيكها، والعودة إلى المربع الأول سياسياً، وإلى قرنين من الزمان إلى الوراء حضارياً وعمرانياً، بعد كل ذلك خرجت كل المحاولات التي تدثرت بعباءة الثورة والتغيير والإسلام في صور ثلاث: الحنكة والخيانة والغباء، وبقي النظام كما هو، بل أسفر عن وجهه الطائفي، وانحاز -بصورة تناقض كل مفاهيم أيديولوجية البعث العربي- للقومية الفارسية والطائفية الدينية، ولكن كل ذلك كان في حقيقته ردة فعل؛ لأفعال شرسة تسلطت على الدولة السورية ممن رفعوا شعار الطائفية المضادة، الإخوانية والسلفية الجهادية والعثمانية الجديدة وداعش، فجاءهم الفرس والفاطميون والزينبيون وحزب الله وكل عصابات الحشد الشعبي؛ الذي يمثل داعش الطائفة الأخرى.
وأما الحنكة فكانت من نصيب القيصر بوتين؛ الذي نجح وبكل مهارة سيشهد بها التاريخ له ولقيادات جيشه وأركان حكومته، فقد استطاع عبر سياسة النفس الطويل تحقيق الحكمة التي تقول "إن الحرب خدعة"، وخدع العالم أجمع، بما فيه الأمم المتحدة التي عينت أكثر من مبعوث خاص للشأن السوري، وظلت القيادة الروسية التي كانت دائما تمثل القيادة السورية، وتتحدث باسمها تقدم التنازلات السياسية والدبلوماسية، بينما على الأرض تنطلق في "ماراثون" المصالحات المحلية التي عقدها الروس انطلاقا من مركز "حميميم" مع أكثر من ثلاثة آلاف قرية وتجمع سكاني ومدينة، فحققت المصالحات من التقدم على الأرض، وهزيمة الجماعات المسلحة أكثر مما حققته آلة الحرب؛ التي كانت تتخذ من التنازلات السياسية والدبلوماسية غطاء كثيفاً لتحقيق مزيد من التقدم على الأرض.
ثلاثة صور ترسم المشهد السوري الأخير: حنكة السياسة الروسية ومهارتها التي خدعت العالم، وحققت ما تريد بمنتهى الهدوء، والغباء التركي القطري، والأحرار الخونة من قيادات المعارضة السورية، الذين يظنون أن تحرير الشعوب يمر عبر استعباد واستعمار الأوطان.
والأمر الغريب الذي يحتاج إلى دراسة؛ مقدار الغباء الذي اتسمت به الجماعات المسلحة، ومشغليها في تركيا وعلى رأسهم السلطان أردوغان، الذين كانوا دائما موضوعاً للخداع الروسي، وكانت كل المصالحات الكبرى من الغوطة الشرقية، والغوطة الغربية، وحمص ودرعا وغيرهما جميعها تنتهي باختيارين إثنين: إما المصالحة مع النظام، أو الانتقال إلى إدلب.. ولم يسأل أحد نفسه السؤال المنطقي.. ثم ماذا بعد؟ أي ماذا سيحدث بعد أن ينتقل كل المقاتلين الذين ينتمون إلى جماعات متناقضة إلى إدلب؟ المشهد الأخير يقول إنهم سيكونون من نصيب أردوغان، سيهرب كثير منهم بصورة ظاهرة ومقبولة إلى تركيا، أو يتسربون عبر الحدود، وبذلك يكون أردوغان قد جنى على تركيا كما جنى على سوريا.
والقدر الأكبر من الغباء جاء من نصيب قطر التي استثمرت أموالا طائلة في الجماعات السورية المسلحة، وفتحت قناة الجزيرة لأشرسها وأكثرها إرهابا، فكان أبو محمد الجولاني؛ ممثل تنظيم القاعدة في سوريا وقائد جبهة النصرة، ضيفا على أهم برامج قناة الجزيرة، وقد أسهمت قطر في تحويل هذه الجماعات من ثوار ومقاتلين أصحاب فكرة؛ أيا كان موقفنا من هذه الفكرة، وأيا كان مدى أخلاقية هذه الفكرة، تحولوا إلى أجراء يقاتلون بالأجر وإذا قطعت عنهم المرتبات، والأجور يعلنون وقف القتال؛ بل إن أحدهم وهو قائد جيش الإسلام "عصام بويضاني" قالها صراحة في تصريح منشور أنه سيقف مع من يقدم له الدعم سواء ممولي المعارضة أو النظام.
وكانت الخيانة من نصيب قيادات المعارضة الذي باعوا أنفسهم للعواصم التي كانت تستضيفهم، وتوفر لهم الفنادق والتمويل، خصوصا الذين يقيمون في تركيا، والذين أصبحوا يرون بأم أعينهم مدى أطماع أردوغان في وطنهم، وما قام به من عمليات "تتريك" للشمال السوري المحتل من قبل الجماعات السورية التي تمولها تركيا؛ خصوصا من تنظيم الإخوان والجماعات القريبة منه، وكيف أن اللغة التركية طغت علي الشمال السوري، والمؤسسات التركية من البريد إلى الجامعات؛ مروراً بكل مؤسسات الدولة جميعها صارت تركية، هؤلاء الذي خرجوا للعالم في صورة دعاة تحرير لوطنهم من حاكم مستبد، أصبحوا يخونون تراب وطنهم، ويسلمونه للمستعمر التركي؛ الذي يريد أن يعبد عصور الظلام التي فرضها الاستعمار العثماني البغيض على جميع الأراضي التي استولى عليها في العالم العربي والبلقان.
ثلاثة صور ترسم المشهد السوري الأخير: حنكة السياسة الروسية ومهارتها التي خدعت العالم، وحققت ما تريد بمنتهى الهدوء، والغباء التركي القطري، والأحرار الخونة من قيادات المعارضة السورية، الذين يظنون أن تحرير الشعوب يمر عبر استعباد، واستعمار الأوطان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة