لقد تغيرت الظروف وظهرت أجيال ومطالب جديدة. ومع ذلك يبقى هذا الاتفاق، أو وثيقة الوفاق الوطني، نقطة يمكن الابتداء منها.
شهد لبنان عدة تطورات هامة الأسبوع الماضي، فقد صرَّح الرئيس ميشيل عون يوم الأحد 30 أغسطس 2020 بضرورة انتقال لبنان من "النظام الطوائفي السائد إلى الدولة المدنية العصرية، دولة المواطن والمواطنة". وأنه سوف يقوم بمُشاورات مع الزعامات السياسية ورؤساء الطوائف الدينية لتحديد التعديلات الدستورية اللازمة في هذا الشأن.
وفي اليوم التالي، بدأ الرئيس مُشاوراته مع أعضاء مجلس النواب والتي انتهت في نفس اليوم باختيار السفير مصطفى أديب مُرشحاً لرئاسة الحكومة. ترافق ذلك مع بدء الرئيس الفرنسي ماكرون زيارته الثانية لبيروت خلال شهر واحد لدفع عملية تشكيل وزارة قوية قادرة على تحقيق الإصلاحات الاقتصادية و المالية، ومكافحة الفساد، وإنجاز إصلاحات سياسية.
والحقيقة، أن هذه الأهداف الثلاثة مترابطة ويكاد لا يُمكن تحقيق أي منها على نحوٍ مؤثر إلا بالاثنين الآخرين، فتشكيل وزارة قوية يعني خروجها من عباءة المُحاصصة الطائفية والخضوع لزعماء الطوائف، ولا يُمكن لأي حكومة اتباع سياسة جادة لمكافحة الفساد ما لم يتوقف توزيع المناصب والمُناقصات والمزايا المالية على أُسس طائفية، وهذا وذاك لا يتحققان بدون إصلاح أُسس نظام الحُكم وقواعده، وتغيير المُمارسات السياسية التي استمرت لعقود.
وإذا صدقت نوايا الطبقة السياسية في لبنان بشأن الإصلاح السياسي وألا يكون قبولها لشعار التغيير مُجرد مُناورة لامتصاص غضب الشارع المُطالِب بالتغيير، ودعم المجتمع الدولي لهذه المطالب، فإنه لن يتم البدء من الصفر إذ أنه توجد قاعدة قانونية وتوافُق لبناني عريض على مبادئ الإصلاح وأُسسه. وأقصد بذلك، وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باسم اتفاق الطائف الذي وُقِّع في 30 سبتمبر 1989 ثم أصدرها مجلس النواب في شكل قانون في 22 أكتوبر من نفس العام.
فهذا الاتفاق لم يكن مُجرد آلية لإنهاء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً أو أنه عدَّل نسب التوزيع الطائفي لتصبح مُناصفةً بين المسلمين والمسيحيين وحسب، بل أنه تعدَّى ذلك ووضع إطاراً لإنهاء الطائفية وبداية نظام سياسي جديد.
أشار الاتفاق بوضوح إلى أن "إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي"، واقترح تشكيل "هيئة وطنية" برئاسة رئيس الجمهورية، وعضوية رئيسيْ مجلس الوزراء ومجلس النواب وعدد من الشخصيات العامة. وذلك بهدف "دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية"، على أن يقوم مجلسيْ النواب والوزراء بتنفيذها. ونص على الخطوات المحددة التي ينبغي اتخاذها في المرحلة الانتقالية وهي "إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة وفقاً لمُقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى وتكون هذه الوظائف مُناصفةً بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة". وكذلك "إلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية".
وأكد الاتفاق أهمية التعليم ودوره في تحقيق الانتماء الوطني. فاقترح "إعادة النظر في المناهج وتطويرها بما يعزِّز الانتماء والانصهار الوطنيين، والانفتاح الروحي والثقافي وتوحيد الكتاب في مادتيْ التاريخ والتربية والوطنية".
وفي مجال إبراز دور الدولة في حماية أمن الوطن والمواطنين، نص الاتفاق على "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر".
وبعد ثلاثين عاماً من توقيع اتفاق الطائف، فإن الطائفية السياسية لم تتراجع أو يقل تأثيرها بل على العكس ازدادت رسوخاً وتغلغلاً. لم يتم الإعلان عن الخطة التي كان من المفروض أن تعدها الهيئة الوطنية، واستمر تدريس التاريخ والتربية الوطنية دون تغيير. كما استمرت ظاهرة "السلاح المُنفلت" بين الميليشيات.
حدث ذلك في الوقت الذي تعتبر فيه نصوص الاتفاق بمثابة مواد قانونية مُلزِمة للجميع. لم يتم التطبيق لعدة أسباب، منها أن القطاع الأكبر من الطبقة السياسية الحاكمة وجد فيه إضراراً بمصالحه، وأن رئيس الوزراء القوي "رفيق الحريري" الذي حاول بناء مؤسسات الدولة تم اغتياله في حادث مروِّع في عام 2005 وأصبح ذلك مثالاً رادعاً لمن يسير في هذا الطريق مرة أخرى، وأن حزب الله يمتلك قوة عسكرية أقوى من تلك التي تمتلكها الدولة ويستطيع أن يفرض إرادته على مؤسساتها.
لقد تغيرت الظروف وظهرت أجيال ومطالب جديدة. ومع ذلك يبقى هذا الاتفاق، أو وثيقة الوفاق الوطني، نقطة يمكن الابتداء منها والبناء عليها وتطويرها بما يناسب احتياجات لبنان الآن.
ومن المُفارقات، أنه بينما يعيش لبنان لحظة استثنائية وخطرة للغاية وخصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أُغسطس الماضي واستقالة الحكومة في 10 أغسطس، فإن أركان الحكم تصرفوا بنفس الأساليب التقليدية القديمة التي أوصلت لبنان إلى ما هو عليه الآن. ويدل على ذلك أن الاتفاق على تحديد موعد للمُشاورات النيابية لاختيار رئيس وزراء جديد استغرق ثلاثة أسابيع، بينما انتهت هذه المُشاورات في عدة ساعات وقبل وصول الرئيس ماكرون لقطع الطريق عليه والتخفيف من ضغوطه لتشكيل حكومة جديدة.
قال ماكرون بعد وصوله بيروت إن هذه الحكومة يجب أن يكون عليها القيام بمهام محددة. ولعله قصد في المقام الأول الإصلاحات المالية والاقتصادية، فقد أشار إلى أن صندوق النقد الدولي لن يوافق على طلب لبنان بالحصول على دعم مالي قبل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وأكد أن فرنسا على استعداد للدعوة إلى مؤتمر دولي لدعم لبنان، وفي ختام زيارته أشار إلى وجود توافق بين قادة لبنان على خارطة طريق لتحقيق الإصلاحات المطلوبة وفقاً لتوقيتات محددة، وأن العالم لا يقدِّم شيكاً على بياض وأن الدعم الدولي مشروط بالالتزام بهذه الخارطة.
فهل يستطيع رئيس الوزراء المُكلَّف الوفاء بهذه المهام؟ وهل ستسمح له القوى الرافضة للتغيير القيام بها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة