العلاقة بين السلام النسبي والتنمية وتقدم البشرية، لا تخطئها عين، ولم يكن لهذه العلاقة أن تقوم لولا أولا التجربة الإنسانية المرة.
"الوصايا العشر" التي نزلت على النبي موسي عليه السلام، و"موعظة الجبل" التي ألقاها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وخطبة الوداع التي ألقاها خاتم الأنبياء الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، أو “الوثائق" الثلاث بلغة العصر الحالي للأديان السماوية، جميعها تحث على أمرين: السلام، وحرمة النفس البشرية. وفي الحالتين كانت المجاهدة البشرية على مر العصور أن تعمل من أجل عالم يسوده السلام والمحبة والتعاون وبشكل عام "التنمية البشرية" التي تجعل الإنسان أرقى خلقا، وأكثر تعليما، وأفضل صحة، وأغنى ثروة. ورغم ما يبدو من أخبار مزعجة كثيرة على ظهر الكرة الأرضية، ربما كان آخرها وأكثرها قسوة ظهور الفيروس التاجي الذي أصاب عشرات الملايين من البشر، ووفاة ملايين منهم؛ فإن الحقيقة الناصعة هي أن الجنس البشري نجح في تحقيق الأهداف المشار إليها. ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تنشب حربا عالمية أخرى، وعندما اشتدت المنافسة والخصومة بين القوى العظمى والكبرى فإن الحرب كانت "باردة"، ومنذ إلقاء القنابل النووية على هيروشيما وناجا زاكي في أغسطس ١٩٤٥، فإن الأسلحة النووية لم تستخدم مرة أخرى رغم الزيادة الهائلة في مخزونها وقدراتها التدميرية. وفي الواقع أنه في خارج إقليم الشرق الأوسط لا يوجد إقليم آخر ملتهب في الدنيا كلها، فكل التناقضات والخلافات التاريخية محكومة بطريقة أو بأخرى. ونتيجة لذلك فإن ثروة الإنسان زادت، وعمره طال، وتعليمه تطور بطريقة مذهلة؛ وربما لم يحدث في تاريخ الإنسانية أن الإنسان بات قادرا على مواجهة فيروسات معدية مثل الكورونا خلال فترة لا تزيد عن عام واحد. تغلب الإنسان بصورة عامة على المجاعة، وعندما تحدث فإن الآليات الدولية تقوم على مواجهتها بسرعة؛ وبصورة عامة فإن الفقر والفقراء تراجعا كنسبة من عدد سكان الكوكب، وأكثر من ذلك خرج قرابة ملياري إنسان من قائمة الفقراء وانضموا إلى الطبقة الوسطى، معظمهم من الصين والهند وإندونيسيا ودول أخرى في آسيا وأمريكا الجنوبية.
العلاقة بين السلام النسبي والتنمية وتقدم البشرية لا تخطئها عين، ولم يكن لهذه العلاقة أن تقوم لولا أولا التجربة الإنسانية المرة مع ظاهرة الحرب والعنف التي لم ينتج عنها سوى الخراب والدمار والفقر والمجاعة، وثانيا أن جماعة مختارة منها الأنبياء، وبعدهم القادة من أولي العزم، تخطت نوازع الصراع والتناقض والخصومة والصدام إلى ساحة حل المنازعات، والتعاون، وباختصار إقامة السلام. ورغم أن الأنبياء الثلاثة صلاة الله عليهم جميعا والمشار لهم في البداية جاءوا إلى العالمين من الشرق الأوسط والمنطقة العربية تحديدا، إلا أن ذات المنطقة هي التي باتت مكانا للصراع والنزاع والصدام خلال العقود السبع الماضية. وباختصار كان هناك ندرة في شجاعة اختيار السلام، في مقابل اعتبار النزاعات والخلافات والمنافسة الطبيعية في حياة البشر نوعا من المسائل "الوجودية" التي لا يصح فيها لا حل ولا سلام لأن وجود طرف لا يعني إلا نفيا لوجود الطرف الآخر. أصبحت منطقة الشرق الأوسط الأكثر عنفا وإرهابا على الخريطة العالمية، ومنذ مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وبعد ما سمي "الربيع العربي"، فإن العالم العربي بات شاهدا على حروب أهلية في سوريا والعراق وليبيا واليمن؛ وتدخلا دوليا من قبل روسيا والولايات المتحدة ودول أخرى أعضاء في حلف الأطلنطي؛ وتدخلات إقليمية من إيران وتركيا أو إسرائيل. ولم يصدق تلك الطبيعة "الوجودية" على حالة بقدر ما جرت على ما بات معروفا بالصراع العربي الإسرائيلي، والأكثر تحديدا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ حتى جاءت حرب أكتوبر ١٩٧٣ التي بدأت فصلا جديدا انتهت فيه "وجودية" الصراع مع اتفاقيات فصل القوات بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا. ومن وقتها مر على المنطقة ثلاث موجات للبحث عن السلام في منطقة عزت عليه ليس بسبب الصراع بين العرب والإسرائيليين، وإنما بين العرب وبعضهم البعض أيضا.
الموجة الأولى للسلام نبعت من حرب أكتوبر، ولكن أكثر من ذلك جاءت من شجاعة الرئيس المصري أنور السادات الذي لم يعقد فقط اتفاقيات للفصل بين القوات أو عقد معاهدة للسلام مع إسرائيل، وإنما كانت لديه القدرة الفذة لتغيير البيئة التفاوضية مع إسرائيل حتى نجح في النهاية حتى بعد اغتياله في تحقيق الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المصرية. وأكثر من ذلك، ورغم تحفظات كثيرة فإن العالم العربي بات مستعدا لتبني منهج البحث عن السلام من خلال ما بات معروفا بإعلان فاس أو مبادرة الملك فهد. الموجة الثانية تلت أيضا حربا أخرى كانت هذه المرة حرب تحرير الكويت، الحرب قادت إلى عقد مؤتمر مدريد ومنها عقدت معاهدة السلام الإسرائيلية الأردنية، واتفاقيات أوسلو الفلسطينية الإسرائيلية والتي بمقتضاها حصل الفلسطينيون على أول سلطة وطنية فلسطينية على الأرض الفلسطينية في التاريخ.
الموجة الثالثة هي التي تقود الطريق إليها دولة الإمارات العربية المتحدة لكيلا تحقق فقط سلاما عربيا إسرائيليا، أو توقف عمليات الضم الإسرائيلية لأراض فلسطينية فحسب، وإنما لكي تعود بالإقليم كله إلى العصر الذي نعيش فيه. فإذا كانت الموجة الأولى حدثت في ظلال الحرب الباردة العالمية، والثانية في ظل القطبية الأحادية الأمريكية على الدنيا، فإن الثالثة تأتي مع بداية العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، ومن دولة عربية مؤهلة بالثروة والعلوم والتكنولوجيا لكي تخرج بالمنطقة من حالة الصدام والصراع إلى حالة من السلام والتنمية وتحقيق أهداف الألفية الثالثة التي يتخلص فيها الإنسان في المنطقة من الكراهية والفقر والجهل. وباختصار أن تعيش المنطقة عصرها في التقدم العالمي الذي وصل إلى آفاق لم تصل إليها البشرية من قبل تكنولوجيا وعلميا وصناعيا.
المدهش في موجات السلام الثلاث أن بعض القيادات الفلسطينية بكامل فصائلهم أو في بعضها أبدوا اعتراضا وثورة على مبادرات السلام وبإعلان أنه لا أحد يجب عليه أن يتحدث باسم الفلسطينيين. والواقع أن لا أحد أراد ذلك، ولكنهم لم يمانعوا من التحدث باسم دول عربية أخرى وعما إذا كان لها حق في إقامة السلام أم لا. المدهش أكثر أنه طوال سنوات الاحتلال الإسرائيلي فإن أولئك القادة لم يجدوا غضاضة في طرح فصائل كثيرة للتحدث باسمهم؛ وفي الجولة الأخيرة للاعتراض الفلسطيني فإن المطلب الأول لفصائل فلسطينية من حماس إلى الجبهة الشعبية هو إلغاء اتفاق أوسلو أي إنهاء وجود أول سلطة وطنية فلسطينية. وما هو أكثر عجبا أنه بينما كانت الفصائل الفلسطينية تجتمع من أجل الوحدة في ٢ سبتمبر الجاري كانت حماس قد توصلت إلى اتفاق مع إسرائيل على وقف إطلاق نار مؤقت، وهذه المرة بوساطة قطرية قيمتها ١٧ مليون دولار قدمها في حقائب دولارية المبعوث القطري محمد العمادي لتأمين الصفقة. ووعدت إسرائيل أنه إذا استمر الهدوء، فسوف تسمح لبعض مشاريع بنية التحتية في غزة بالتقدم بما في ذلك خط كهرباء عالي الجهد من إسرائيل إلى غزة؛ وسيتم استئناف شحنات الوقود إلى غزة، مما سيمكن محطة الكهرباء المعطلة من العمل وتضاء شوارع القطاع لبعض الوقت بالكهرباء الإسرائيلية. كذلك سوف يتم توسيع منطقة الصيد التي تسمح بها إسرائيل لصيادين من غزة. هذا النوع من النفاق لم يمنع من قبل مبادرة سلام عربية من الوصول إلى أهدافها، ولن يحدث ذلك هذه المرة أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة