طلال مداح.. زرياب العرب الذي هزمته المقادير
لا يمكن استعراض تاريخ الأغنية السعودية بماضيها وحاضرها من دون الوقوف على سيرة الفنان الكبير طلال مداح بنبله وتسامحه وإنسانيته
تحت عنوان "طلال مداح فنه وموسيقاه" تم الإعلان عن ندوة كبري في إطار تكريم الفنان الراحل طلال مداح بمهرجان الموسيقى العربية بدورته السادسة والعشرين التي ستنطق في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة يوم الأربعاء الموافق 1 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، حيث يشارك فيها المايسترو أمير عبدالمجيد والدكتور سعد محمد حسن والمايسترو خالد فؤاد والإعلامي اللبناني جمال فياضن كما يقام حفل يتخلله غناء أعمال الراحل الكبير بأصوات فناني دار الأوبرا.
والحقيقة أنه لا يمكن استعراض تاريخ الأغنية السعودية بماضيها وحاضرها، من دون الوقوف على سيرة الفنان الكبير، طلال مداح، أو حتى الإشارة إلى شيء من نبل وتسامح وروح وبساطة طلال وإنسانيته، فدوره المهم في مراحل التأسيس والتطور لا يمكن أن ينسي، وأي منصف يدرك أن الأغنية برحيله قبل 17 عاما قد فقدت شيئا من بهجتها وبريقها، فمنذ سقوطه على مسرح (المفتاحة) في أبها عام (2000)، والذاكرة لا تزال ندية تستلهم أعماله الغنائية ومواقفه الشخصية وكلماته في حب أبها التي قال فيها (لا تلوموني في هواها.. قلبي ما يعشق سواها) وتستحضر المشهد الأخير له وكأنه حدث بالأمس.
ولد الفنان طلال مداح في مكة يوم 5 أغسطس 1940، وعرف عن والده إيجاده للعزف على آلتي المدروف والسمسمية، وعليه فقد ساعدت تلك العوامل مجتمعه في إدخاله مجال الفن وجعله يعشق هذا اللون ليصبح واحدا من فرسانه المعدودين.
كما أدى الراحل طلال المداح دورا كبيرا في تطوير الأغنية السعودية، فهو كان أول من قدّم "الأغنية المكبلهة"، أي التي تكون على هيئة مقاطع طربية عريضة، من خلال أغنية "وردك يا زارع الورد"، بينما كان المطربون السعوديون قبله يلحنون أعمالهم بأسلوب أغنية اللحن الواحد، كما قدّم طلال المداح بعض الأغنيات بروح غربية، من بينها "وعد"، و"إلى حد ما"، و"شيلي اللثام"، كذلك خاض تجربة أداء الأغنية الطويلة، كـ "يا حبيب العمر"، و"تعالي"، و"خلصت القصة"، و"أحرجتني" و"أنا العاشق".
وتعتبر فترة الستينات بداية بروز طلال في أغنيات هامة حيث غنى خلالها أعمالا من تلحين ملحنين كبار مثل الموسيقار طارق عبد الحكيم، والموسيقار غازي علي، وفوزي محسون وعبد الله محمد. والموسيقار سراج عمر، والموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب في أغنية " ماذا أقول"، كما شهدت فترة السبعينيات تكوين الرباعي (طلال مداح- بدر بن عبد المحسن- محمد العبدالله الفيصل - سراج عمر) وقدموا أغنيات مدهشة من نوعية "زمان الصمت"و أغنية "وعد" من ألحان طلال مداح نفسه، وكذلك "غربة وليل" و"أغنية هدي خطانا" ورائعته"مقادير" و"أغراب" و"لا تقول".
وكان طلال مداح قد ألهب مسارح القاهرة في السبعينيات رغم وجود أساطير الغناء في العالم العربي مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش بأدائه على مسارح مصر أغانيه الشهيرة في ذلك الوقت مثل "مقادير" و"أغراب" و"أنادي" و"لا تقول" و"وقفي" و"هلي الجدايل" وغيرها.
وإستمرت نجاحاته في الثمانينات في أعمال من نوعية مواله الرائع "زارنا في الظلام.. يطلب سترا" وفجر الساحة بأغاني رائعة مثل أغنية "العشق"من ألحان رفيق دربه سراج عمر, وأغنية "ما عاد لي نفس" و"تصدق ولا أحلف لك" و"زل الطرب" و"سيدي قم" و"بالإشارة"، كما قام بتقديم بعضا من روائع الأغاني في تاريخ السعودية مثل "خلصت القصة" و"أحرجتني" والأخيرة من ألحان عبدالرب إدريس، ليحصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الثانية والذي منحه إياه في ذلك الوقت الملك فهد بن عبد العزيز.
وشهدت التسعينيات تجديد أغنياته القديمة في الستينيات والسبعينيات بتسجيل وتوزيع مجدد أو غنائها على آلة العود مثل "بعد إيه ترسل كتاب" و"ظالم ولكن" و"الله يرد خطاك" و"ماعننا وعنك" و"لسه برضو" وغيرها من روائعه القديمة، بالإضافة لإصدار بعض الألبومات الجديدة مثل "أنا راجع أشوفك", و"ذهب" و"العطر" الذي عاد فيه للتعاون مع رفيق دربه القديم "سراج عمر"، كما رجع تعاون طلال مداح مع بعض الملحنين المصريين مثل الدكتور إبراهيم رأفت"، ومع توفيق فريد في عملين هما "وفقك الله" و"لحظة غضب"، وتعاون طلال مع صالح السيد في أغنية "اعذروني".
وقد شدا طلال مداح برائعة "يا حبيب العمر" وهي قصيدة بالفصحى طويلة ولكنها لم تطرح في الأسواق إلا بعد وفاته وهي من ألحان الدكتور جمال سلامة.
وقد حمل طلال مداح ألقابا عدة كالحنجرة الذهبية وقيثارة الشرق وصوت الأرض، وصنفته الساحة الفنية برائد الحداثة في الأغنية السعودية، كما تغنى بكلمات أمير الشعراء أحمد شوقي، وغنى للموسيقار محمد عبد الوهاب الذي أطلق عليه لقب زرياب، في إشارة إلى الموسيقي الكردي الشهير، كما لقب أيضا بصوت الأرض.
قال عنه الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن: "تجاوز الفن الغنائي السعودي بفضل صوته حدود الوطن ليصل للعالم العربي كله، وتميزه وتفرّده ليس فقط في صوته اللين الدافئ القوي، إنما في شخصيته البسيطة الطيبة، وأفكاره وفلسفته الخاصة للأشياء وعنها".
أما الأمير الشاعر محمد العبدالله الفيصل فقال عنه: "طلال مداح تاريخ، وتاريخ الأغنية السعودية كانت بداياته الفعلية على يد طلال مداح واشتهرت بفضل طلال مداح رغم محاولات من سبقوه".
أما الفنان محمد عبده فقال عنه: "طلال هو رجل الأغنية السعودية الأول وهو الأصل ونحن نتفرع منه"، بينما قال في مناسبة أخرى "طلال يستعصي على الغياب، ولا يمكن أن يغيب، وما غرسه في أرواحنا إحساس أبلغ وأعمق من الموسيقى.
والحقيقة أنه تم تقديم فيلم وثائقي مميز من إنتاج السعودية عن الراحل بعنوان (قيثارة الشرق.. وقفة حب) من إعداد وإشراف خالد أبو منذر وأخرجه فيصل يماني استعرض حياته ومحطاته الفنية بشكل جيد وكان خير ما يمكن أن يقدم في تأبين وتوثيق هذا الفنان الكبير، وعلى الرغم من الشهرة الواسعة التي حققها "مداح" في جميع أنحاء الوطن العربي، وارتباطه الكبير بوطنه الثاني مصر، إلا أنها لم يسبق لها تكريمه على الإطلاق، لذلك أحسنت دار الأوبرا المصرية بتدارك هذا التقصير مؤخرا.