لم تتوقف حكايات "عرب شركس" المصرية معي عند نموذج وذكريات الهند، بل تحمل دروسا في الاقتصاد، وقت أن كان الحديث عن علوم الاقتصاد لا يتعدى سعر دقيقة محمول تحت شعار "اديني رنّة".
"الرنّات" في مصر كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل عبر الهاتف الجوّال خلال الفترة من 1989 إلى 2005، حيث سعر الدقيقة 175 قرشا "35 سنتا" وقتها، وسرعان ما أصبحت بسعر رغيفين من الخبز المدعم -10 قروش- من بداية 2007 إلى مرحلة الباقات.
باقة حكايات "عرب شركس" هذه المرة تتعلق بدرس في الاقتصاد ألقاه عليّ المهندس أحمد عبد الرازق، الرجل الأول في معسكر تشكيل المعادن وأحد رواد الأعمال المؤثرين في ثقافتي الاقتصادية، على مدار 20 عاما كاملة وأكثر، خاصة أن الدرس الموجّه كان يخص الموارد تحت مبدأ "ابدأ بنفسك"، قبل أن تفوتك الفرصة.
الفرص تخرج من رحم الأزمات كما تعلّمنا من قواعد الاقتصاد، لذا كانت مفاجأة لي حين طلب "عبد الرازق" "علبة دخاني" ليلقى عمودًا منها على الأرض، لأجدني أنحني دون وعي وبشكل تلقائي لألتقطها من على الأرض، فاندهش الرجل حينها من فعلتي قائلا: "لأنها ملكك انحنيت لحمايتها.. ولو فعلها كل مصري لتحوّلت بلادنا إلى قوة اقتصادية عالمية".
عالميا هناك اقتصادات نهضت بالفعل تحت شعار "ابدأ بنفسك".. لعل أبرزها الصين، وسنغافورة، حتى البرازيل الدولة النامية، لكن الأقرب للتجربة المصرية هي سنغافورة، التي بدأت نهضتها تقريبا في التوقيت نفسه الذي انطلقت فيه مصر بعد حرب أكتوبر 1973 نحو الانفتاح على العالم في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فيما تعثر اقتصاد مصر بفعل أحداث يناير 2011، واستمر اقتصاد سنغافورة في مساره.
اقتصاد سنغافورة حصل على المركز رقم 37 بناتج داخلي إجمالي مرتقب يبلغ 424431 مليون دولار في نهاية 2022، وفق مجلة "سي إي أو وورلد" الأمريكية، بينما تراجع ترتيب الاقتصاد المصري، لكن مبدأ "ابدأ بنفسك" المستخلص من درس "عرب شركس" الاقتصادي أطلَّ مجددًا بعد حديث الرئيس المصري الأسبوع الماضي حين افتتح مشروعاتٍ جديدة قرب قناة السويس، متحدثًا عن خسائر أحداث يناير 2011، وما تبعها في 2013 من أزمات.
أزمات الأرقام في مصر أنها لا تكذب، لكننا في القاهرة "نكره الصراحة" أحيانا، لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي ليس لديه إلا الصدق حين يخاطب شعبه، فكانت الصدمة التي ينكرها البعض ويحاول البعض الآخر أن يتجاهلها، وهي أن مصر خسرت 450 مليار دولار بفعل فاعل بين 2011 و2013، والجميع كان شريكًا في هذه الخسائر، لذلك فالجميع أيضًا سيشارك في ترميم مصر اقتصاديا.
اقتصاديا، لا بد أن يكون لكل تكلفة عائد، وما دمنا ننتظر العائد من ترميم اقتصاد بلد ما علينا أن نسدد أولا تكلفة الحصول على هذا العائد، وفي الحالة المصرية، علينا أن نقف جميعا أمام درس الاقتصاد القادم من "عرب شركس"، وهو "ابدأ بنفسك"، ففي ظل التضخم المستورد الصاعد، والمتغيرات الجيوسياسية الكبرى حول العالم لا بد أن نحافظ على مواردنا الحالية لمستقبل موارد أجيال قادمة، فهم خلاصة وورثة ما نزرعه اليوم.
اليوم، وفي تقديري اقتصاد مصر أمام مفترق طرق، إما أن يعود سريعًا لمسار "سنغافورة" المفقود منذ 2011، وهذا ما يستهدف الرئيس "السيسي" والحكومة، وإما أن يظل واقفًا على سُلم الأمنيَّات دون هدف ولا جمهور ولا رؤية، وأغلب الظن -وبعض الظن حق- لن يعود للمسار الصحيح إلا إذا طبّق الجميع نصيحة عبقري "عرب شركس": "ابدأ بنفسك"!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة