الحوار مع طالبان أفغانستان.. مقومات النجاح
فكرة الحوار مع طالبان ليست وليدة اللحظة، فقد طُرحت بعد سنوات قليلة من اتضاح محدودية فعالية الأداة العسكرية في إدارة الملف الأفغاني
فرض بديل الحوار مع حركة طالبان أفغانستان نفسه بقوة على خلفية عدد من العوامل المهمة، أبرزها فشل الأداة العسكرية في القضاء على التنظيمات العنيفة في أفغانستان، سواء طالبان أو القاعدة أو غيرهما من التنظيمات، الأمر الذي فرض على الإدارة الأمريكية إعادة النظر في سياستها التقليدية تجاه الملف الأفغاني، خاصة في ضوء التكلفة الضخمة للعمليات العسكرية، وعدم وجود نتائج محددة تكفل تبرير هذه التكاليف داخل الكونجرس. أضف إلى ذلك بروز ملفات أخرى باتت أكثر أهمية بالمقارنة بالملف الأفغاني، أبرزها ملفا الصين وكوريا الشمالية، الأمر الذي استوجب تخفيض حجم الالتزامات - الدفاعية والمالية الأمريكية في أفغانستان.
في هذا السياق، قررت الولايات المتحدة الدخول في حوار سياسي مع طالبان، عُقدت في إطاره 8 جولات حتى تاريخ كتابة هذه السطور. ورغم عدم إعلان طرفي التفاوض حتى الآن عن اتفاق محدد، لكن هذه الجولات الثمانية نجحت- حتى الآن- في مناقشة عدد من الموضوعات المهمة للطرفين، شملت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ومستقبل الحكومة الأفغانية وتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار وعدم تحول أفغانستان إلى مصدر للتهديد.
فكرة الحوار مع طالبان ليست وليدة اللحظة، فقد طُرحت بعد سنوات قليلة من اتضاح محدودية فعالية الأداة العسكرية في إدارة الملف الأفغاني ونجاحها في إزاحة نظام طالبان دون القدرة على تحقيق نجاح مماثل في القضاء على الحركة على المستويين التنظيمي أو الأيديولوجي. وجاءت فكرة الحوار لأول مرة من جانب الرئيس السابق حامد كرزاي، وأيدها الرئيس الباكستاني الأسبق برفيز مشرف. ورغم حدوث تواصل بالفعل بين الحكومة الأفغانية وعناصر من حركة طالبان خلال مرحلة كرزاي، لكن عملية "الحوار" الراهنة تتسم بدرجة أكبر من "التوافق" داخل حركة طالبان، كما تتسم بمشاركة ودعم أمريكي أكثر وضوحا وعلنية، الأمر الذي يؤسس لتحليل موضوعي لفرص نجاح هذه العملية.
وقد عُقدت الجولة السابعة من هذا الحوار خلال الأسبوع الأول من يوليو/تموز 2019، كان أبرز تطوراتها تنظيم حوار خلال يومي 7- 8 يوليو/تموز بين حركة طابان ومسؤولين أفغان "شاركوا في الحوار بصفتهم الشخصية بسبب رفض طالبان حتى الآن الجلوس على مائدة المفاوضات مع الحكومة"، تلاها استئناف الحوار بين طالبان والولايات المتحدة في 9 يوليو/تموز. وانتهت الجولة بالإعلان عن "ورقة تفاهمات"، حظيت بدعم كبير من جانب الحكومة الأفغانية. ونصت الورقة- حسب بعض التقارير- على عدد من المبادئ، شملت الحفاظ على "النظام الإسلامي" للدولة وحماية المنشآت العامة والبنية التحتية وحماية المدنيين وعدم استهدافهم من قبل الأطراف المتحاربة والحفاظ على استقلال أفغانستان وإجراء الإصلاحات اللازمة في بنية الحكومة الأفغانية وعودة المهاجرين الأفغان من دول الجوار وتوزيع الأراضي عليهم والامتناع المتبادل عن استخدام لغة التهديد والانتقام والعمل على توفير المناخ المناسب لبدء المفاوضات المباشرة بين الأطراف الأفغانية، بالإضافة إلى أخذ الضمانات اللازمة من دول الجوار بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان.
وانطلقت الجولة الثامنة في 4 أغسطس/آب الجاري. وارتبطت هذه الجولة بوجود توقعات مرتفعة حول احتمال توقيع اتفاق أولي بين طالبان والولايات المتحدة حول مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ووقف إطلاق النار والتمهيد لبدء حوار رسمي بين طالبان والحكومة الأفغانية.
وبعيدا عن الإشكاليات العديدة التي لا تزال تواجه عملية الحوار مع طالبان، فإنها تتمتع في المقابل- على عكس مشروعات الحوار السابقة- بتوفر مجموعة من المقومات التي تمثل شروطا مهمة- لكنها ليست كافية بالتأكيد- لنجاح مشروع الحوار الجاري. وتتمثل أهم هذه المقومات في النقاط التالية:
1- التحول في مواقف الأطراف من فكرة الحوار
طُرحت فكرة الحوار مع طالبان في عام 2004 من جانب الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزاي، لكنها لم تتحول إلى بديل سياسي إلا مع طرح البيت الأبيض في 27 مارس/آذار 2009 "الورقة البيضاء لتقرير الفريق المشترك بين الوكالات حول السياسة الأمريكية تجاه أفغانستان وباكستان"، التي عُرفت إعلاميا بالاستراتيجية الأمريكية تجاه أفغانستان وباكستان. ثم تأكد هذا البديل مرة أخرى مع التعديلات التي أدخلها أوباما على هذه الاستراتيجية في الأول من ديسمبر/كانون الأول عام 2009 التي صدرت تحت عنوان "حول الطريق نحو الأمام في أفغانستان وباكستان"، والتي عُرفت إعلاميا "بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفغانستان". ثم اكتسب هذا البديل بعدا دوليا أوسع نطاقا مع إقرار مؤتمر لندن 28 يناير/كانون الثاني عام 2010 لمشروع المصالحة كما طرحه حامد كرزاي في المؤتمر. وهكذا، أصبح الحوار مع طالبان مكونا رئيسا في الوثائق الأمريكية والدولية الرسمية ذات الصلة بإعادة بناء أفغانستان، بدءا من مارس/آذار 2009، كما أصبح محل توافق دولي واضح نتيجة تقييمات عملية لمسار الحرب في أفغانستان خلال السنوات السابقة على ذلك التاريخ. في هذا السياق، طُرح مفهومان رئيسان هما "المصالحة" و"الدمج"، حيث انصرف الأول إلى الحوار مع قيادات الحركة بالأساس، بينما انصرف الثاني إلى إعادة دمج المقاتلين الميدانيين والصفوف الدنيا من الحركة داخل المجتمع الأفغاني.
وتضمنت الوثيقة الأولى 15 توصية للتعامل مع الأوضاع الراهنة في أفغانستان وباكستان، أشارت التوصية الخامسة إلى "تشجيع جهود الحكومة الأفغانية على دمج المتمردين القابلين للتصالح". واعترفت الوثيقة صراحة بأنه "لا يمكن كسب الحرب في أفغانستان بدون إقناع المتمردين غير الملتزمين أيديولوجيا بترك سلاحهم والابتعاد عن القاعدة وقبولهم الدستور الأفغاني". كما اعترفت بضرورة التمييز بين هؤلاء المؤمنين بأيديولوجية طالبان وأولئك المقاتلين الأقل التزاما بأيديولوجيتها خاصة الصفوف الوسطى والدنيا داخل الحركة، مع استبعاد الصف الأول بقيادة الملا محمد عمر ومجلس شورى الحركة، حيث ذهبت الوثيقة إلى أن هذا الجناح تحديدا لا يمكن التصالح معه. وأخيرا، أكدت الوثيقة أن عملية المصالحة تلك يجب أن تظل "عملية أفغانية" وبقيادة الحكومة الأفغانية. وقد أعادت تعديلات ديسمبر/كانون الأول عام 2009 التأكيد على تلك الاستراتيجية والالتزام بهذا البديل السياسي.
واتساقا مع هذا التوجه الجديد تجاه طالبان، أعادت الاستراتيجية الأمريكية وتعديلاتها تعريف أهداف الحرب في أفغانستان، لتشمل "تعطيل، وتفكيك، وإلحاق الهزيمة بالقاعدة وحلفائها المتطرفين"، و"حرمان القاعدة من الحصول على الملاذ الآمن"، وقلب "الزخم الأخير الذي اكتسبته حركة طالبان، وحرمانها من القدرة على الإطاحة بالحكومة الأفغانية". وهنا نلاحظ التمييز بين الأهداف الأمريكية في حالة كل من القاعدة وطالبان، وكيف تم النزول بهذه الأهداف في حالة طالبان إلى الاكتفاء بوقف التقدم الذي حققته الحركة، وحرمانها من القدرة على الإطاحة بنظام كرزاي. ويلاحظ أيضا أن الوثيقتين السابقتين تجنبتا إطلاق توصيفات من قبيل "المتطرفة" أو "الإرهابية" على حركة طالبان، ففي الوقت الذي وصفتا فيه "القاعدة" بالتنظيم "الإرهابي"، وأنه "مجموعة من المتطرفين الذين شوهوا ودنسوا الإسلام، أحد أعظم العقائد في العالم"، فقد تجنبت وثيقة مارس/آذار 2009 التعامل مع طالبان باعتبارها كيانا واحدا مصمتا، إذ حرصت على استخدام تعبير "الأنشطة الإرهابية/التمردية لطالبان" (the terrorist/ insurgent activities of the Taliban)، في حرص واضح على التمييز بين جناح متطرف ملتزم بأيديولوجية الحركة، وآخر يمكن وصفه بالمتمردين "غير الإرهابيين" داخلها. وقد استمر هذا التوجه قائما مع صدور وثيقة ديسمبر/كانون الأول عام 2009، إذ اكتفت هي الأخرى بوصف طالبان بأنها "حركة متحجرة وقمعية وراديكالية استولت على البلاد بعد أن خربتها سنوات الاحتلال السوفيتي والحرب الأهلية"، دون وصفها بـ"الإرهابية" أو حتى "المتطرفة".
ومع أهمية التحول المهم الذي طال مواقف كرزاي ثم الولايات المتحدة ثم حلف الناتو تجاه حركة طالبان، إلا أن هذا التحول لم يكن كافيا لبدء عملية مصالحة شاملة مع الحركة. فمن ناحية، ظل هناك تباين بين الولايات المتحدة وحكومة كرزاي حول مفهوم المصالحة. فقد انطلقت الولايات المتحدة، ولفترة طويلة بعد طرح وثيقتي مارس/آذار وديسمبر/كانون الأول 2009 من مفهوم أقرب إلى "الاستيعاب" و"الاحتواء" لجناح محدد داخل طالبان، وهو الجناح الأقل التزاما بأيديولوجيتها، والذي التحق بالعمل القتالي داخل صفوف الحركة لدوافع غير أيديولوجية تتعلق بالرغبة في المقاومة الوطنية "وليس الصراع الأيديولوجي"، أو الرغبة في الثأر بسبب فقد ضحايا، أو للحصول على المال، أو المراهنة على تغير موازين القوى على الأرض لصالح طالبان. وبهذا المعنى، فإن التصور الأمريكي كان أقرب إلى استراتيجية تفكيك الحركة من الداخل منه إلى "الحوار" معها بالمعنى الدقيق للكلمة. وفي المقابل، كان تصور كرزاي أقرب إلى الجلوس على مائدة المفاوضات مع مختلف عناصر وأجنحة طالبان، دونما تمييز بين جناح متشدد وآخر معتدل.
تبع ذلك وجود خلاف أمريكي- أفغاني حول مع من سيتم الحوار؟ ففي الوقت الذي تمسكت فيه إدارة أوباما برفض الحوار مع الملا عمر ومجلس شورى الحركة، فقد تبنى كرزاي موقفا مرنا من هذا الجناح ولم يتبن موقفا مسبقا باستبعاده من أي حوار محتمل مع الحركة، طالما قبل بشروط الحوار. فقد أعلن صبغة الله مجددي، رئيس اللجنة الأفغانية للمصالحة، في مايو/أيار 2005، استعداده للعفو عن كل من الملا عمر وقلب الدين حكمتيار- رئيس الحزب الإسلامي- إذا قبلوا التخلي عن السلاح، وقبلوا الدستور الأفغاني وقيادة كرزاي. وتكرر الموقف نفسه من جانب الرئيس كرزاي؛ فرغم تأكيد الاستراتيجية الأمريكية وتعديلاتها، صراحة، على استبعاد الملا عمر ومجلس شورى الحركة من أي حوار أو مصالحة، فقد أعاد كرزاي التأكيد في 15 يونيو/حزيران 2009 "بعد شهرين ونصف من صدور الاستراتيجية المعلنة في 27 مارس/آذار"، ثم في 3 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه "بعد يومين فقط من صدور الوثيقة المعدلة"، استعداده لمقابلة الملا عمر.
من ناحية ثانية، ظلت هناك فجوة كبيرة بين الولايات المتحدة وكرزاي من ناحية، وطالبان من ناحية أخرى، حول الشروط المسبقة لبدء هذا الحوار؛ ففيما اشترط كرزاي والولايات المتحدة ضرورة اعتراف طالبان بالعملية السياسية الجارية في أفغانستان ونظام كرزاي والدستور الأفغاني، فضلا عن ترك السلاح والتوقف عن العنف، تحدثت طالبان من جانبها عن خروج قوات الاحتلال من أفغانستان أولا، ووضع دستور "إسلامي"، ثانيا، والقبول بسيطرة طالبان على عشرة ولايات في جنوب أفغانستان، ثالثا.
لكن رغم هذا التباين بين الولايات المتحدة وكرزاي، فقد سعى الأخير إلى فتح حوار فعلي مع الحركة، ولم ينتظر لحين تغير الموقف الأمريكي والدولي الرسمي كما عكسته الوثائق المشار إليها سابقا؛ فقد سعى كرزاي بدءا من عام 2006 إلى إقناع الحركة بالدخول في حوار مع حكومته. ونجحت الجهود الأفغانية بالفعل في عام 2008 في إقناع عدد من قيادات الحركة وبعض القيادات السياسية المحسوبة عليها ببدء هذا الحوار. وتوالى الكشف عن بعض هذه اللقاءات التي جرى بعضها داخل أفغانستان، وجرى بعضها الآخر خارجها. لكن مع ذلك، ظلت هناك حالة من الغموض خلال الفترة "2008- 2010" حول حقيقة وجود هذا الحوار من عدمه أو مستواه، وذلك على خلفية تناقض التصريحات المتبادلة بين الطرفين بشأن هذه المحادثات؛ فمن ناحية، نفت قيادات عدة من حركة طالبان- بما في ذلك الملا عمر نفسه- وجود مثل هذا الحوار، وأعادت التأكيد أكثر من مرة رفضها دعوات كرزاي المتكررة للحوار. على الجانب الآخر، ذهبت العديد من المصادر الأفغانية والأمريكية إلى وجود هذه المحادثات وأن قيادات الحركة أعطت الضوء الأخضر لممثليها لبدء هذا الحوار.
غير أن حالة الغموض تلك تبددت نسبيا في مايو/أيار عام 2011 مع الكشف عن وجود اتصالات تمهيدية مباشرة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، شارك فيها ممثلون عن وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية والملا محمد طيب أغا "أحد مساعدي الملا عمر ومدير مكتبه في قندهار قبل سقوط نظام طالبان". وتبع ذلك توالي هذه الاجتماعات، واتخاذ عدد من الإجراءات المهمة في هذا المجال، كان أبرزها اتفاق الولايات المتحدة وطالبان على فتح مكتب للحركة في العاصمة الدوحة، وتوالي رفع أسماء عدد من قيادات الحركة من قائمة الأمم المتحدة للإرهاب، وذلك في إطار بناء الثقة بين الحركة والولايات المتحدة من ناحية، وتمهيدا لتسهيل حرية حركة القيادات المهمة للحركة المشاركة في هذا الحوار من ناحية أخرى.
لكن هذه المحادثات تعثرت بسبب عدد من التطورات، بدأت باغتيال برهان الدين رباني "الرئيس الأفغاني الأسبق ورئيس "المجلس الأعلى للسلام" الذي دشنه قرضاي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2010، للإشراف على مشروع الحوار والمصالحة مع طالبان" في 20 سبتمبر/أيلول عام 2011 "أي بعد أقل من عام من بدء عمل المجلس"، وهي عملية فُهمت على أنها رسالة سلبية من الحركة تجاه مشروع المصالحة؛ ما أدى إلى إعلان كرزاي تجميد المحادثات مع طالبان ومراجعته استراتيجية التفاوض معها. ورغم اتجاه الولايات المتحدة وطالبان إلى تجاوز هذا الحادث، وحصر تأثيره على العلاقات بين نظام كرزاي وطالبان وتحييد تأثيره على الاتصالات بين الولايات المتحدة والحركة، حيث استمرت تلك الاتصالات بين الطرفين بعد هذا الحادث، إلا أنها سرعان ما تعثرت بسبب ممارسات جنود الاحتلال، كان أبرزها حرق جنود أمريكيين في فبراير/شباط عام 2012 مصاحف بقاعدة باغرام العسكرية الأمريكية بالقرب من العاصمة الأفغانية، ثم قيام أحد الجنود في 11 مارس/آذار بإطلاق النار على 16 مدنيا أفغانيا في قندهار وحرق جثث بعضهم. وقد تبع ذلك إعلان الحركة في 15 مارس/آذار تعليق محادثاتها مع الولايات المتحدة.
ورغم انهيار هذه المرحلة من المحادثات، لكن ومع الوقت تكرس لدى طالبان القبول بمبدأ الحوار، واتسع ليشمل القبول بالمبدأ من جانب قيادات الصف الأول داخل الحركة، وهو ما تأكد بمشاركة الملا عبد الغني برادر نفسه في جلسات الحوار مع الولايات المتحدة بدءا من جولة الحوار الخامسة التي بدأت في أواخر فبراير/شباط عام 2019، والذي تولى قيادة المكتب السياسي للحركة في الدوحة بدءا من يناير. لكن مع ذلك لا تزال فكرة الحوار مع الحكومة الأفغانية موضوع جدل بين طالبان والولايات المتحدة.
هذه التحولات المهمة في مواقف الأطراف من فكرة الحوار، تمثل بلا شك شرطا مهما في نجاح عملية الحوار الجارية، وإن كانت هذه التحولات غير كاملة، على نحو ما سيتم مناقشته في موضع لاحق.
2- دعم دول الجوار الإقليمي
أحد الأخطاء المهمة التي وقعت فيها الولايات المتحدة في إدارة الملف الأفغاني عقب إزاحة نظام طالبان هو إهمالها للإطار الإقليمي لعملية إعادة بناء النظام السياسي الأفغاني، ما بين إغفال لأدوار ومصالح بعض القوى الإقليمية المهمة، أو الدخول في صراع معها بشكل انعكس على الملف الأفغاني، أو إزكاء الصراع بين بعض هذه القوى بشكل انعكس أيضا على علاقة هذه القوى بالملف الأفغاني وبالأطراف السياسية الداخلية. وعلى العكس من هذا التوجه، فقد ارتبط الحوار الأمريكي الجاري مع طالبان بالعمل على إيجاد "إطار إقليمي" مُشجِع لعملية الحوار، من خلال تفعيل أدوار أكبر عدد ممكن من الفاعلين الإقليميين، سواء دول الجوار الإقليمي المباشر "خاصة باكستان، وبعض دول آسيا الوسطى"، أو بعض دول الجوار غير المباشر "الصين والهند"، أو تلك التي لعبت أدوارا تاريخية في أفغانستان في مراحل معينة "المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة"، بالإضافة إلى بعض القوى الدولية الآسيوية والأوروبية الأخرى.
هذا الانفتاح على مختلف القوى الدولية والإقليمية لا يمثل فقط شرطا لاستيعاب وتفهم مصالح هذه القوى، خاصة تلك التي تعاملت تاريخيا مع أفغانستان باعتبارها ساحة لإدارة الصراع مع الأعداء أو المنافسين التقليديين "حالة الهند وباكستان"، لكنه يمثل شرطا مهما أيضا لتوظيف نفوذ بعض هذه القوى لدى الأطراف الداخلية الأفغانية "النفوذ الباكستاني لدى طالبان، والدور الذي لعبته في تسهيل مشاركة بعض هذه القيادات في الحوار من خلال إطلاق سراح الملا عبد الغني برادر في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018 الذي ظل محتجزا لديها منذ فبراير/شباط 2010، والنفوذ الهندي لدى تحالف الشمال- العدو التاريخي لطالبان- الذي سيضحى تأمين دعمه للحوار مع طالبان وأي اتفاق يمكن التوصل إليه معها شرطا مهما لنجاح تطبيق هذا الاتفاق على الأرض"، أو لتأمين المساعدات الاقتصادية والمالية اللازمة في مرحلة تالية لعمليات إعادة تأهيل ودمج عناصر الحركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بمعنى آخر، فإن تفعيل الإطار الإقليمي يمثل شرطا مهما لخلق مصلحة إقليمية مشتركة في نجاح عملية الحوار، واستدامة أي اتفاقيات يمكن أن تنتج عنها.
وعلى العكس من حالة الانفتاح الجارية على القوى الدولية والإقليمية في سياق إدارة عملية الحوار الراهنة، فقد اتسمت عمليات "التواصل/الحوار" السابقة بين الحكومة الأفغانية، أو الولايات المتحدة، مع حركة طالبان بتهميش واضح للإطار الإقليمي، على نحو أفقدها الكثير من القدرة على الاستمرار.
3- الخلفية المهنية والاجتماعية للمبعوث الأمريكي للمصالحة الأفغانية
بالإضافة إلى المقومات الموضوعية السابقة، لا يمكن إغفال التأثير الإيجابي للمبعوث الأمريكي للمصالحة زلماي خليل زاد الذي يشرف على هذا الحوار. وتأتي أهمية "زاد" ليس فقط بالنظر إلى خبرته السياسية الضخمة داخل المؤسسات السياسية والأمنية الأمريكية، لكن من كونه ذا أصول أفغانية، ينتمي إلى الأغلبية البشتوينة، يجيد اللغتين الأهم في أفغانستان (البشتونية والدارية)، فضلا عن مكوثه لفترات متقطعة في أفغانستان، حيث عمل سفيرا للولايات المتحدة في أفغانستان خلال الفترة 2003- 2005. هذه السمات تمثل عوامل مهمة لمساعدة "زاد" على فهم "المعضلة" الأفغانية ومفاتيح حلها والأهم هو فهمه للشخصية الأفغانية والبيئة الثقافية والاجتماعية التي تتحرك فيها طالبان.
وأخيرا، يمكن الإشارة إلى عامل "ضغط الوقت" الذي يخضع له أحد طرفي التفاوض، وهو الإدارة الأمريكية، سواء على خلفية تصاعد "التحدي الصيني"، من ناحية- على نحو ما أُشير إليه سابقا- أو قرب انتهاء فترة الرئاسة الأولى للرئيس ترامب، وحاجته إلى تحقيق بعض الإنجازات على صعيد الملفات الخارجية، قبل الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية الجديدة، خاصة في ظل تعثر المراهنة على تحقيق إنجاز واضح فيما يتعلق بملف كوريا الشمالية. هذا العامل قد يمثل عنصر ضغط مهما على المفاوض الأمريكي للوصول إلى "اتفاق" محدد مع الحركة في أقرب وقت ممكن.
aXA6IDE4LjExNy4xMDUuNDAg جزيرة ام اند امز